8.09.2020

تجليات: أبواب البروج باخبار الاسراء والعروج

تجليات: أبواب البروج باخبار الاسراء والعروج: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. اللهم صلّ على محمد وال محمد. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. هذه رسالة م...

4.04.2020

تصحيح ميزان التصحيح


تحميل


تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وال محمد. ربنا اغفرنا لنا واخواننا المؤمنين.

 قال رسول الله صلى الله عليه واله لوابصة : (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ.)






هذا تعليقة على ملخص كتاب " ميزان تصحيح الموروث الروائي" معالم نظريّة عرض الروايات على القرآن الكريم تقريرا لأبحاث المرجع الديني السيّد كمال الحيدري بقلم الدكتور طلال الحسن.
منذ عام 2015 بدأت اميل الى منهج التصحيح المتني للحديث بعرض الحديث على القران والسنة، وظهرت عبارات رد الظني الى القطعي واسلام عابر للمذاهب في كتاباتي آنذاك، والان والحمد لله وبعد تأليفي أكثر من عشرين كتابا في أسس وتطبيقات منهج عرض الحديث على القران والسنة ورد المعارف الى الأصول والثوابت، والتحول التام من الصحة السندية الى الصحة المتنية، بدأت بالشروع في مشروعي بجمع الأحاديث الصحيحة متنا (التي لها شاهد من القران والسنة القطعية ودن اعتناء بالسند) والحمد لله. ووجدت ان السيد كمال الحيدري قد فصل في منهج العرض لكن وجدت اختلافات جوهرية عما استقدته من الأدلة فأحببت تسليط الضوء على ملامح هذه الاطروحة مع تعليقات لي في جوانب معرفية مختلفة أهمها في أسس منهج العرض وتطبيقاته. فاستخرجت من الكتاب المواضع التي لها علاقة جوهرية بفكرة العرض والتي تقوّمه وخصوصا ما كان لدي تأمل فيها.
وتكمن أهمية تفصيلات السيد كمال الحيدري لمنهج العرض بانه عمل لم يطرقه الان في عصرنا الا قليل، مع حقيقة ان هذا المنهج هو الحق وكان مشهورا عند السلف وقد بينت ذلك في مناسبات عدة. ومن الواضح عندي بعد تتبعي الأخير لكتابات السيد ان محورية القران ظهرت في كلماته سنة 2011، او صرح بها علنا في هذا الوقت، ومن خلال تتبعي أيضا وجدت تصريحا واضحا للعرض على القران من قبل السيد حسن بن علي السقاف في 2007 في كتاب شرحه للعقيدة الطحاوية. ورغم ان كثيرا من التفصيلات التي طرحها السيد الحيدري لي فيها تامل ومنها ما هو جوهري الا انه فعلا يعد اول من فصّل في هذا الموضوع هذا التفصيل، فيشكر له هذا السبق. ومع ان منهج العرض هو منهج القران والسنة ومنهج السلف الا ان طرحه الان مع الابتعاد عنه يعد تصحيحا أكثر مما هو تجديد. وسترى ان هناك اختلافات جوهرية وعميقة بين ما طرحه السيد وما اطرحه لذلك وصفت الكتاب واسميته بالتصحيح وستكون هناك خلاصة لمجموعة الاختلاف تعجيلا للمنفعة.
 وطريقة التأليف انني سأضع اقتباسا من كلام السيد ايده الله تعالى بين قوسين مرتكزا على ما في الكتاب، وان كان هناك تعليق فسأذكره بعده وهذه ما اسميها (التخليصات الارتكازية التصحيحية للكتب) فانا لا ألخّص كل الكتاب وانما ألخّص الجوهر الذي له علاقة بموضوع المناقشة ارتكازا على ما هو في الأصل كمشترك معرفي يرجع اليه والتعليق في حالة التأمل. وهذه العملية التصحيحية الارتكازية استقدتها من أحاديث اهل البيت عليهم السلام فهم أحيانا يرتكزون على ما عند المسلمين من حديث لرسول الله صلى الله عليه واله ويشيرون الى موطن التصحيح فقط دون الرواية الكاملة، والحمد لله على نعمه.
       



خلاصات الفروقات

هذه الفروقات بين ما يراه السيد وما هو الحق عندي بخصوص منهج العرض فقط واما غيره من الأمور التي ذكرها الكتاب فانا لم اتعرض لها أصلا.
ان السيد اعتمد نص (العرض على القران) فقط والحق ان المحكم هو (العرض على القران والسنة) وما اقتصر على ذكر القرآن كان من باب الاهتمام والتغليب.
السيد يرى ان الحديث والسنة واحد فيعاملهما معاملة احدة والحق ان السنة ليست الحديث ولا تعامل معاملة الحديث وان كانت محمولة فيه.
 السيد يرى ان اساس الاختلاف هو النقل لكن الحق ان الاختلاف اساسه الفهم.
السيد يرى انه لا بد للسنة من أصل في القران والحق ليس كذلك بل السنة أصل ولا تحتاج الى أصل بل ان محكم السنة مقدم على متشابه القران قطعا.
السيد يرى ان المحورية في الشريعة للقران والحق ان المحورية للقران والسنة القطعية.
السيد يرى تمايز المعارف القرآنية عن المعارف السنية والحق ان ما في الصدور هو معارف قرآنية سنية منصهرة متحدة بلا تمايز والتمايز خارجي لفظي وليس حقيقيا.
السيد يرى اتحاد النص ومدلوله مع المعرفة والحق ان المعرفة تختلف عن النص ومدلوله.
السيد يرى ان التفرع هو من النص القرآني او السني والحق ان التفرع من المعرفة وليس من النص والمعرفة غير متمايزة فهي قرآنية سنية والاشارة الى النص المتفرع منه هو اشاري وليس جوهري.
السيد يرى ان العرض هو للاختصاصيين فالعارض هو خصوص المختص والحق انه لكل مسلم فالعارض هو كل مسلم.
السيد لا يلغي الاعتبار السندي بالكلية في العرض والحق عدم الاعتبار بالسند بالكلية في العرض.
السيد يرى انه لا بد من الاحاطة الكاملة التفصيلية بمعارف القران لاجل العرض والحق انه لا حاجة الى ذلك فالعرض يكون على الوجدان الشرعي الذي هو متكون عند كل مسلم. وهو بمعنى حديث واصبة (استفت قلبك).
السيد يرى ان العارض هو خصوص العالم الذي علم معارف القران بدقة وهو فريد في وجوده والحق ان العارض هو المسلم البسيط العادي بل ابسط المسلمين معرفة وحديث وابصة دال عليه.
السيد يرى ان الموافقة والمخالفة تعني المنافاة وعدمها والحق ان الموافقة وجود الشاهد والمخالفة عدم وجو الشاهد وان لم تكن منافاة.
السيد يرى ان نقد السند مهم للتقييم والعرض والحق انه لا عبرة مطلقا بالسند في عملية العرض.
السيد يرى انه لا بد من قواعد دقيقة للعرض ومنها ما هو معقد والحق ان قواعد العرض وجدانية عرفية عقلائية متحققة في نفس كل مسلم.
السيد يجعل العرض والتصديق في قبال القرائن العقلائية والحق ان العرض هو من القرائن العقلائية وهو أثبتها مطلقا.






3.26.2020

الصحيح والمعتل من احاديث توحيد المفضل



الصّحيح والمعتلّ من أحاديث توحيد المفضل
محب الدين أنور غني الموسوي
دار أقواس للنشر
العراق 1441

المحتويات 1
المقدمة 3
الاول : منهج العرض 4
الثاني: الشاهد الشرعي بصحة المضمون 4
الثالث: الرواية والمضمون 12
الرابع: آلية عرض المضامين على المعارف الشرعية الثابتة 15
فصل: مقدمة المفضل 22
فصل: المجلس الأول 27
مضمون صحيح (1) 27
مضمون صحيح (2) 28
مضمون صحيح (3) 30
مضمون صحيح (4) 30
مضمون صحيح (5). 39
مضمون صحيح (6) 65
مضمون صحيح (7) 67
مضمون صحيح (8) 71
فصل المجلس الثاني 80
مضمون صحيح (9) 88
مضمون صحيح (10) 101
فصل المجلس الثالث 115
مجلس الرابع 160
مضمون صحيح (11) 162
مضمون صحيح (12) 166
مضمون صحيح (13) 176
مضمون صحيح (14) 177
مضمون صحيح (15) 179
خاتمة في مختصر توحيد المفضل بالمضامين الصحيحة 186

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد واله الطاهرين. رب اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين.
هذا بيان للمضامين الصحيحة من المعتلة من مضامين كتاب " توحيد المفضل"، وهو تطبيق لمنهج العرض على مضامين الكتاب بعرض تلك المضامين على القران والسنّة. ولأن الكتاب هو رواية واحد فان هذا العمل هو عمل بطريقة تفكيك المضامين في النص الواحد، اي معاملة كل مضمون مختلف معاملة مختلفة من حيث الصحة والاعتلال. ولان منهج العرض قائم على الرد الى المعارف الشرعية وقبول الحديث الذي له شاهد منها وهو ما نصفه بالصحيح وترك الحديث الذي ليس له شاهد منها ونصفه بالمعتل ولعدم شهرة هذا المنهج كان من المناسب الكلام في امور.

الاول : منهج العرض
لتكوين فكرة كاملة عن منهج العرض يرجع مطالعة كتبي " منهج العرض" ، " مدخل الى منهج العرض" و " رسالة في حديث العرض". تجدها في الرابط التالي:
https://www.calameo.com/subscriptions/5169014
الثاني: الشاهد الشرعي بصحة المضمون
الشيء في مجال المعرفة له صورته معرفية في الذهن وله دائرته من العلاقة بجهات مختلفة حسب طبيعة المعنى من اسباب ونتائج واستجابة وانفعال وتفاعل او ما ينتهي الى ذلك ونحوه من كليات التأثير والتأثر. فدائرة المعنى اعم من الدلالات بما يشمل جميع العلاقات المعرفية بين المعاني. ولذلك فانثيال المعاني وتخاطرها امور حقيقية ثابتة واقعا ووجدانا، وما سبب ذلك الا العلاقات الاتصالية الرابطة بين المعاني. 
وهذا الاتصال المعرفي يحقق العلم بصدق المعرفة لذلك كان العرض على الثابت اي المعلوم من مضامين القران والسنة، وكلما كان المضمون او الحقيقة المعرفية محورية في الشرع كانت دائرته العلاقاتية اكبر وكان الرد اليها اوضح، ولذلك كان الرد عند الاختلاف الى محكم القران ومتفق السنة لانه السبيل الصحيح لمعرفة ما هو متصل من غيره في ظل الاختلاف. 
الحقيقة المعرفة الخاصة بالشيء تتفاوت طبعا بين الناس الا ان معارف الناس بخصوص شيء كلما تقترب من المركز اي جوهر الشيء وحقيقته تتوحد لذلك فان التفاوت بين الناس بخصوص الاشياء ليس في الدائرة الجوهرية غالبا وانما في الدائرة الطرفية ومن هنا تبرز اهمية توحيد سبيل المعرفة في الشرع لان الحقائق والمعرفة ما هي الا مجموعة معارف مكتسبة بخصوص الاشياء تعتمد على التعليم أكثر منها على الاكتشاف.
هذا الاتصال المعرفي ليس اعتباطيا وانما يرجع الى تداخل معرفي وترابط بين الحقائق بجوانب مختلفة تختلف باختلاف وجوه المعرفة الكلية من موضوعات ومحمولات ونسب ومن اشتقاق وقرائن وتفرعات وتوازي وتباعد وتقارب. وهذا كله يمكن ان نسميه القرابة المعرفية ومن اهمها في الخطاب القرابة المعنوية بين المعاني.
ان الدائرة المعرفية للمعنى تتداخل مع دوائر اخرى وهذا التداخل لها اتجاهان؛ اتجاه ايجابي توافقي واتجاه تنافري، وكلا الاتجاهين يحقق اشارة معرفية تمييزية هي الشاهد المعرفي فيشهد للمعارف بموافقة الايجابية التوافقية و يشهد بخلاف المعارف التنافرية، كما ان القرب و البعد ايضا له اثر اشاري تمييزي فتشهد المعرفة للمعارف القريبة ولا تشهد للبعيدة وهذا ايضا شاهد معرفي للمعارف القريبة، ومن هنا فالمعرفة المعنوية للمعنى تشهد للمعارف القريبة التوافقية بشهادة الاتصال و القربة و التوافق ونسبتها تكون من الصدق والعلم، و لا تشهد بذلك للمعارف البعيدة او المعارف القريبة المخالفة. فهذا معارف منفصلة ونسبتها تكون من الظن او الكذب.   
القرب المعرفي هو بمعنى من المعاني الاتصال عن طريق جهة من جهات المعنى ويكون هذا قويا وواضحا الى حد العتبة الاتصالية التي حينها تخفت الصلة وتضعف وتكون ظنا لا علما. من هنا كلما كانت المعرفة متصلة مباشرة أي بالدائرة الاصلية للشيء وليس بواسطة حلقة اخرى كانت اكثر وثوقا واكثر رسوخا وكلما ابتعدت حلقة الاتصال كانت اقل رسوخا و وثقا. وأكثر اشكال الاتصال قوة هو الاتصال الاشتقاقي اي الاتصال بحلقة المعنى مباشرة ثم الاتصال الاقتراني اي الارتباط بثالث ثم الاتصال البعيد وهو الاتصال بواسطة اكثر من حلقة وهذا كله هو الاتصال المعرفي والوثوق المعرفي، فالاتصال هو مطلق القرب من دائرة المعنى و اوثقه اقربه من الدائرة الجوهرية وقوته أي تعدد جوانبه.  وان للعقل كفاءة عالية في كشف درجة الاتصال والقرب وحجمه لذلك فمن الكفاءة والسرعة الكبير ان يحكم الوجدان على كون المعرفة المعينة قريبة ومتوافقة مع ما يرد اليه ام لا، وهذا هو اساس مبدأ الرد وهو اساس منهج العرض أي عرض المعارف على الثابت منها كعرض الحديث على القران والسنة.
ان لكل معرفة ابعاد من حيث الصورة والمظهر ومن حيث المقدمات والاسباب ومن حيث الافعال و النتائج أي من حيث الوجود ومن حيث التأثر و التأثير، وهذا يتطلب تداخلا مع معارف اخرى أي دوائر معرفية اخرى وهذا هو التداخل المعرفي الذي هو اساس للشاهد المعرفي.  الشاهد المعرفي يتعدد بتعدد تلك الجهات التي يمكن حصرها بعناوين كلية لكن لا يمكن حصرها بأفراد و مصاديق لأنها تتكثر بتكثر طبيعة الاشياء و تكثرها، الا ان كليتها مؤكدة واهمها الاشتقاقات من الهيئة و التأثر و التأثر و الوجود والمقدمات و النتائج، و الذات و اللازم و الملزم وغيرها من اشكال الدلالات الواضحة عرفا وهي اوثق الصلات وهناك الاتصال الاقتراني و الاتصال البعيد المناسباتي. وحينما يكون الشاهد المعرفي واضحا وقريبا جدا من المعرفة المردود اليها فانه يكون اكثر علمية وكلما كان ابعد و اضعف كان اقل علمية، الا انه دوما يحقق اتصالا مما يحقق ترابط المعرفة و تناسقها وتوافقها وعدم اختلافها وهذه هي علامة الحقيقة. وقوة الشاهد المعرفي هو بتعدد الجوانب التي تتصل به المعرفة المعروضة على المعروض عليها. فالشاهد المعرفي ليس شاهد امكان وجواز وعدم مخالفة لان هذا حاصل في كل معرفة لا تتداخل مع المحور ولا تعارضه، و انما الشاهد هو شاهد اتصال وانتماء وهو يشمل فقط المعرفة المتداخلة و المتوافقة والتي لها نفس الاتجاه المعرفي واما ما يتداخل و يخالف فان الشاهد على خلافه و اما ما لا يتداخل فهو ما ليس له شاهد. فالشاهد المعرفي الموجب للاتصال المعرفي والموجب للعلم بالانتماء المعرفي هو تداخل معرفي مع توافق في الاتجاه والغرض في النظام المعرفي الكلي وكلما تعددت جوانب الاتصال قوي العلم والوثوق بالانتماء.
تبين مما سبق ان الرد يكون للمعارف الشرعية و ليس الى المنطوق او النص اللفظي بل الى المعرفة المتكونة بخصوص شيء او علاقة، أي الحكم وهو الاهم، فان الشريعة هي مجموعة احكام ومعارفها الاساسية علاقاتية حكمية وحتى اطرافها حينما تدرك فانما تدرك بما هي في احكام وهذا ايضا يعطي لونا للشريعة متميز يختلف عن الاعتباط و الاتفاق الذي يقصد الذوات، بل الشريعة لها تناسق و محورية ومقاصدية و اتجاه و تميز واضح في ابعادها الانسانية و الاخلاقية والمعرفية عموما. ولكل معرفة شرعية أي علاقة بالمعنى العام او حكم بمعناه العام فان له دائرة معنوية وهي الدائرة الانتمائية للعناصر المعرفية ومنها ما هو جوهري ذاتي ومنا ما هو عرضي علاقاتي، وهذا الدائرة مدركة بوضوح وبتميز وراسخة بقدر رسوخ ومحورية المعرفة التي يرجع اليها. ومن المعارف الشرعية ما هو محوري في الشرع يرد اليها غيرها، وتلك المعارف المحورية عادة ما تكون واضحة لجميع الناس وبينة بجميع تفاصيلها أي بجميع عناصرها المعرفية الجوهرية والعرضية الاساسية والعريضة الفرعية. وفي الشرع الشاهد هو تداخل معرفي مع توفق في الاتجاه فاذا لم يكن تداخل فهذا يعني عدم الشاهد واذا كان تداخل وباتجاه معاكس أي مع تعارض فهذا شاهد بعدم الانتماء. 
وكما ان المعاني دوائر معرفية فيها المركز والذات و فيها العلاقات المظهرية فان الشريعة ايضا هي بصورة دائرة معرفية فيها مركز معرفي جوهري محوري و حوله المعارف الاخرى العلاقاتية، المظهرية الطرفية. والرد الشرعي هو عملية عقلية سريعة يكون بالأساس الى محور الشريعة ومركزها المعرفي الجوهري ثم الى المعارف المظهرية الطرفية ومن خلال ما يدرك من تداخل معرفي او لا ومن خلال توافق او تعارض يحكم بالشاهد والمصدق فيحكم بعلمية المعرفة او ظنيته او كذبها. ومن البين جدا ان هذه العملية كفؤة جدا ويسيرة جدا لكل من هو عاقل عارف باللغة ولا مجال لافتراض الموانع لانه لا واقعية لها وهذا ما نراه من كلمات الناس وتعامله مع المعارف.
ان المعارف ينظر اليها في نفسها و مرة اخرة ينظر اليها باعتبارها جزء من نظام، وهذا النظام له خصائص معرفية معينة، اذا حققهتا تلك المعرفة كانت منه واذا لم تحققها لم تكن منه، و بقدر تحقيق وظهور تلك الخصائص و تكاملها في المعرفة المنتسبة تتميز نسبتها و انتمائها للمعرف بالضبط كحالة الانتماء الاجتماعي البشري كما ان قوة علاقاتها و كثرتها و تأثيرها ايضا يحد محورتيها في المعرفة، فالنظام المعرفي كالمجتمع البشري و المعارف الجزئية فيه كالافراد، ومن هنا يمكننا ان نصف الانظمة المعرفة بانها مجتمعات معرفية وان المعارف المنتمية الى نظام انها افراد معرفية و ان قوة ومحورية الفرد ناتج من فاعليته في المجتمع وتاثيره. وتاثر المعرفة فاعليتها تكون برسوخها و مقدار تمثيلها للنظام و كثرة تداخلها وعلاقاتها، اذن فمحورية المعرفة في نظام تعتمد غاليا على قوة تمثيلها للنظام أي رسوخها فيه و كثرة علاقتها فيه وحكميتها على غيرها بحسب العلاقات الحكمية والعرفية في التداخلات. وهذه المحورية هي التي تعطي للمعرفة المعينة صفة مرجعية يرد اليها غيرها والمعارف تتفاوت في ذلك. فالمعارف في نظام ينظر في قوة ثباتها في النظام ثم ينظر الى قوة محوريتها فيها.

الثالث: الرواية والمضمون
العرض هو عرض معرفة على معرفة، و المعرفة هي كل عبارة مستقلة في معناه ولذلك فيمكن ان تكون في النص الواحد اكثر من عبارة مستقلة المعنى هي المضمون، ومن الواضح انه حصول اكثر من مضمون في نص واحد، كما ان هذه المضامين يمكن ان تختلف في قربها او بعدها عن المعارف الثابتة التي يرد اليها غيرها. ومن هنا يكون من الجائز جدا والمنطقي جدا تفكيك النص الروائي الى مجموعة مضامين وعرض كل مضمون مستقلا على المعارف الثابتة والاخذ بما وفق القران والسنة ورد ما خالفهما. 
وكما انه من الجائز ان يكون النص كله موضوع على قائله ومكذوب عليه فانه يمكن ان يكون بعض مضامينه موضوعا مكذوبا مع صحة أصل النص. وكما انه يمكن ان يكون الخلل في مجموع الرواية فانه ايضا يمكن ان يكون في زيادة او نقصان لفظ، بل هو الغالب، وكما يمكن ان يكون التغيير المتعمد او غير المتعمد لجميع المضامين فانه ايضا يمكن ان يكون في بعضها، هذا كله يعطي اساسا عرفيا لتفكيك الرواية و تمييز مضامينها و عرض كل مضمون مستقلا على المعارف الثابتة.
من هنا يكون واضحا ان النص الواحد يمكن ان يتكون من أكثر من مضمون وانه يصح عرض كل مضمون منها على المعارف الثابتة فيؤخذ بما له شاهد منها ويترك ما ليس له شاهد. وهذا بالضبط ينطبق على الرواية وان كانت العادة بسبب الاتجاه السندي الى التعامل مع الرواية ككل واحد فإما ان تقبل او ترفض وهذا واضح الخطأ على جميع الوجوه لأنه يحتمل ان يكون أصل الرواية صحيحا وان التحريف حصل في جزء وجزء صغير ربما حرف او كلمة، بل هذا هو الغالب وقد جاءت نصوص كثيرة تشير الى ان تحريف الروايات حصل في جزء بإضافة كلمة او نقص اخرى وان كان الكذب برواية كاملة ايضا موجودا. ومن هنا يكون من الواضح صحة تفكيك الرواية الى مضامينها وعرض كل مضمون على حدة مستقلا واخذ بما له شاهد من القران والسنة وترك ما ليس له شاهد منها. ان هذا التفكيك للرواية له اسسه العقلانية والعرفية كما ان ظاهر ادلة العرض شموله ومن الواضح امكان دخول الخلل على جزء من الرواية وان كان أصلها صحيحا بل ان هذا يكثر والاختلافات في الالفاظ للحديث الواحد شاهد، وبحث الزيادة الروائية واقع في علم الحديث.






الرابع: آلية عرض المضامين على المعارف الشرعية الثابتة
حينما يبلغ الانسان حديث اي مضمون فان هذا المضمون له معنى حكمي (علاقة) تختص بالموضوع والمحمول، ويلاحظ فيه ثلاثة أطراف المحمول والموضوع والنسبة، وكل واحد من هذه الاطراف سواء كان مفردا ام مركبا فان له دائرة معنى في المعارف الثابتة تكون حاله في هذه العلاقة معروضة عليها. طبعا هنا يعامل النص الشرعي من حيث المصدر معاملة واحدة باعتبار وحدة المصدر، فيكون النظر الى المتن بشكل خاص، نعم إذا كان في المتن اخبار عن حالة تتعلق بالقائل من الاولياء صلوات الله عليهم فانه ايضا هذا يكون موضوعا للرد.
ان العقل البشري كفوء جدا في الرد المعرفي ككفاءته في تحصيل المعنى من النص، رغم تعدد جوانب الملاحظة والمعاني التي تحضر عند الرد، وغالبا ما يحصل الرد مباشرة عند تلقي المعنى فيكون هناك قبول او ارتياب او عدم تبين الحال. وهذا يعود لسببين اولا كفاءة العقل في الرد وثانيا رسوخ المعارف الثابتة بخصوص المعارف وخصوصا المعارف الدينية.
بعد سلامة التركيب ووضح المعنى وتحصيله بطريقة عرفية عقلانية واضحة تحصل عملية الرد والتي قد تحصل مبشرة ولو تعمد الانسان ورسخ فكرة الرد في نفسه فان الرد المعرفي سيكون مقترنا بالفهم وسيكون جزء من عملية تقبل المعرفة المحمولة بالنص.
ولا ريب ان هذه ممارسة عقلية فيختلف فيها المبتدئ عن المتمرس وكلما كثرة الممارسة صار الانسان أكثر تمرسا بالرد حتى يصال الى قدرة عالية من الرد لا تتخلف الا قليلا. التخلف الردي يحتاج الى تحليل ومراجعة وهو شيء وارد حتى عند أكثر المتمرسين بالرد. وعلى كل حال الرد عملية عفوية عرفية عقلائية بسيطة الا انه احيانا يلتفت اليها وتعتبر واحيانا لا يلتفت اليها. منهج العرض وتقييم النصوص بالعرض يعني الالتفات الى عملية الرد وليس القيام بها في الواقع.
وكبيان شارح لما هو عفوي وجداني فان العقل يدرك ويلاحظ ما لديه من معارف بخصوص العلاقة بين الاطراف في النص الذي بلغه سمعا او قراءة وهو النص المعروض اي المعرفة المعروضة، فهو نص متلقى ومعرفة متلقاة ونص معروض ومعرفة معروضة. وبتعبير معهود هو ما بلغ القارئ او السامع من حديث، فهو حديث مقروء او حديث مسموع او حديث معروض وهو الحديث الذي بلغ القارئ او المستمع. 
قد بينت في منسابات كثيرة ان العرض يكون للمعرفة الظنية، وهنا امران الاول الظنية للكلام المنقول لها جهتان الاول ظنية النقل وظنية الدلالة، اما ظنية النقل فهي مختصة بالحديث ظني الصدور واما آيات القران والسنة المتفق عليها فليست موضوعا للعرض بل هي ما يعرض عليه. والغرض هنا اخراج الحديث الظني الى حالة العلم فيصبح حديثا معلوما بالتصديق والشواهد.
واما من جهة الفهم فالمعروض ايضا الفهم الظني، فالفهم فهمان فهم قطعي متفق عليه بين المسلمين له أصل عرفي وعقلائي ومعرفي وفهم لا يتصف بذلك، الفهم المتفق عليه لا يعرض بل هو ما يعرض عليه هو المعرفة المعروض عليها غيرها، وانما العرض للفهم الظني. وهذا الفهم الظني قد يكون لنص قطعي كآية او حديث ثابت او لنص ظني كحديث ظني الصدور.
والحديث هنا عن الحديث اي المضمون الظني صدورا، واما باقي الاقسام فلها مواضع اخرنا. حينما يبلغنا مضمون ظني الصدور، فإننا واثناء بناء الكلام واستفادة المعنى يحصل استحضار للمعنى و علاقاته و دوائره بشكل اجمالي و لما هو راسخ منه، ومباشرة بعد اكتمال المعنى و تمام عملية الفهم يحصل رد ’لي الى ما هو معلوم عنه، اي عن العلاقة ، اي عن اطرافها من موضوع ومحمول وما يتعلق بذلك و يتفرع منه من صفات او شروط او قيود نحو ذلك من اغراض و اساليب، و في الشريعة يستحضر معرفتان مهمتان في الاعتقادات و الاعمال، فإما في الاعتقادات فيستحضر غيبية المعرفة او ظاهريتها و في الاعمال يستحضر لزوم المعرفة ام عدم لزومها.
حينما يبلغ العقل مضمون معين فانه يعرضه على ما يعرف، فان وجد له شاهدا ومصدقا من المعارف التي عنده سابقا فانه يقر ويذعن بالنقل والظاهر والا توقف او رفض المضمون. ان الاصل في النقل عند العقل هو الظن مهما كان حال النقل الا ان يبلغ درجة الاستقلال بحيث يتحقق علم اكيد نقلي والا فان الاصل في النقل الظن، فان وجد شاهدا ومصدقا صار علما واقر والا بقي ظنا. واما إذا وجد قرينة خلاف النقل فانه يصبح شكل وإذا ثبت عدم الصدور حكم بانه كذب، فالكذب لا بد فيه من علم ولا يكفي الظن. فالحديث اما ان يعلم انه صدق او يعلم انه كذب او يبقى ظنا سواء مشكوكا الصدق او مشكوك الكذب. الشاهد والمصدق المتني المعرفي هو الذي يجعل الحديث معلوم الصدق وهو المضمون الصحيح وحديثه الحديث الصحيح، واما غير ذلك فهو مضمون معتل وحديثه حديث معتل.
اشارة: 
قال المجلسي: مع أن متن الخبرين شاهدا صدق على صحتهما. وأيضا هما يشتملان على براهين لا تتوقف إفادتها العلم على صحة الخبر. ) اما قوله ان متن الخبرين شاهدا صدق من حيث تصديق ما فيهما من معارف بالمعارف العقلانية وخلوهما مما فيه مخالفة واضحة للثابت من معارف. ولكن عرفت انه لا بد من شاهد معرفي من المعرفة الشرعية ليثبت الاتصال والقرابة المعرفية، وعدم المخالفة والتعارض وكونهما مصدقة بالمعارف العرفية ليس كافيا في اخراجهما من الظن الى العلم فهذا القرائن تجعلها ظن الصدور مع شك بالصدق وهو لا يحقق العلم. واما قوله انهما يشتملان على براهين لا تتوقف إفادتها العلم على صحة فهو ما ذكرته من اشتمالها على شروح عقلانية ومعارف عقلانية عرفية مصدقة وهذا وان افاد صدق المعرفة في نفسها الا انه لا يثبت كونها معرفة شرعية ونحن نبحث في صدق كونها معرفة شرعية، فليس كل معرفة صادقة هي معرفة شرعية. فكثير في حياتنا معارف نقلية صادقة الا ان بحثنا كون تلك المعرفة صادرة من الشرع. ومن هنا فان كثير من المضامين هنا وان اتصفت بما تقدم الا انها لا تحقق الانتماء الشرعي ولا الاتصال الشرعي ولا شاهد لها من الشرع كمعرفة صادرة ولا يقال انه ما المانع ان يفصل الشرع خلقة كائنات تفصيلا دقيقا فان لا مانع من ذلك الا انه ليس هناك شاهد على مثل ذلك من الثابت من الشريعة فانه يكتفي في مثل ذلك وغير ذلك بالتلميح والاشارة والارتكاز.




فصل: مقدمة المفضل
.1 مفضل بن عمر جعفى كوفى) ت: ذكره البرقي في رجال الصادق صلوات الله عليه،  قال :المفضل بن عمر الجعفي، مولى كوفي. وعده المفيد من شيوخ أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام ) وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين (رحمة اللّه عليهم) . وذكر المجلسي ان ظاهر الاخبار الكثيرة علو قدره وجلالته.
.2 روى محمد بن سنان قال حدثني المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر و المنبر و أنا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمدا ص من الشرف و الفضائل و ما منحه و أعطاه و شرفه و حباه مما لا يعرفه الجمهور من الأمة و ما جهلوه من فضله و عظيم منزلته و خطير مرتبته). مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
.3 فإني لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه فلما استقر به المجلس إذ رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلم ابن أبي العوجاء فقال لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله و حاز الشرف بجميع خصاله و نال الحظوة في كل أحواله فقال له صاحبه إنه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى و المنزلة الكبرى و أتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول و ضلت فيها الأحلام و غاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات و هي حسر) . مضمون معتل ظن لا شاهد له.
.4 فلما استجاب لدعوته العقلاء و الفصحاء و الخطباء دخل الناس في دينه أفواجا فقرن اسمه باسم ناموسه) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
.5 فصار يهتف به على رءوس الصوامع في جميع البلدان والمواضع التي انتهت إليها دعوته وعلتها كلمته وظهرت فيها حجته برا و بحرا سهلا و جبلا في كل يوم و ليلة خمس مرات مرددا في الأذان و الإقامة ليتجدد في كل ساعة ذكره و لئلا يخمل أمره) ت: هذا قول الدهري .  مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
.6 فقال ابن أبي العوجاء دع ذكر محمد ص فقد تحير فيه عقلي و ضل في أمره فكري و حدثنا في ذكر الأصل الذي نمشي له ثم ذكر ابتداء الأشياء و زعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه و لا تقدير و لا صانع و لا مدبر بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر و على هذا كانت الدنيا لم تزل و لا تزال) مضمون معتل ظن لا شاهد له. 
.7 قال المفضل فلم أملك نفسي غضبا و غيظا و حنقا فقلت يا عدو الله أ لحدت في دين الله و أنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم و صورك في أتم صورة و نقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت فلو تفكرت في نفسك و صدقك لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية و آثار الصنعة فيك قائمة و شواهده جل و تقدس في خلقك واضحة و براهينه لك لائحة) مضمون معتل ظني ضعيف لا شاهد له.
.8 فقال يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك فإن ثبتت لك حجة تبعناك و إن لم تكن منهم فلا كلام لك و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا و لا بمثل دليلك تجادل فينا) مضمون معتل ظن لا شاهد له.
.9 و لقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا و لا تعدى في جوابنا و إنه الحليم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق يسمع كلامنا و يصغى إلينا و يتعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا و ظنننا إنا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير و خطاب قصير يلزمنا به الحجة و يقطع العذر و لا نستطيع لجوابه ردا) ت: هذا من قول الدهري .  مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
.10 فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه) مضمون معتل ظن ليس له شاهد.
.11 قال المفضل فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلي به الإسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها فدخلت على مولاي ع فرآني منكسرا فقال ما لك فأخبرته بما سمعت من الدهريين و بما رددت عليهما) ت: قوله على مولاي اي ابي عبد الله  صلوات الله عليخه مضمون معتل ظن لا شاهد له.
.12 فقال يا مفضل لألقين عليك من حكمة الباري جل و علا و تقدس اسمه في خلق العالم و السباع و البهائم و الطير و الهوام و كل ذي روح من الأنعام و النبات و الشجرة المثمرة و غير ذات الثمر و الحبوب و البقول المأكول من ذلك و غير المأكول ما يعتبر به المعتبرون و يسكن إلى معرفته المؤمنون و يتحير فيه الملحدون فبكر علي غدا) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.






فصل: المجلس الأول
13. قال المفضل فانصرفت من عنده فرحا مسرورا و طالت على تلك الليلة انتظارا لما وعدني به فلما أصبحت غدوت فاستؤذن لي فدخلت و قمت بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم نهض إلى حجرة كان يخلو فيها و نهضت بنهوضه فقال اتبعني فتبعته فدخل و دخلت خلفه فجلس و جلست بين يديه فقال يا مفضل كأني بك و قد طالت عليك هذه الليلة انتظارا لما وعدتك فقلت أجل يا مولاي) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (1)
14. فقال يا مفضل إن الله تعالى كان ولا شي ء قبله وهو باق ولا نهاية له فله الحمد على ما ألهمنا والشكر على ما منحنا فقد خصنا من العلوم بأعلاها ومن المعالي بأسناها واصطفانا على جميع الخلق بعلمه وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه) ت: فقال اي الامام صلوات الله عليه. مضمون صحيح؛ علم له شاهد.
15. فقلت يا مولاي أ تأذن لي أن أكتب ما تشرحه و كنت أعددت معي ما أكتب فيه فقال لي افعل) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
16.
مضمون صحيح (2)
17. يا مفضل إن الشكاك جهلوا الأسباب و المعاني في الخلقة و قصرت أفهامهم عن تأمل الصواب و الحكمة فيما ذرأ الباري جل قدسه و برأ من صنوف خلقه في البر و البحر و السهل و الوعر فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود و بضعف بصائرهم إلى التكذيب و العنود حتى أنكروا خلق الأشياء و ادعوا أن تكونها بالإهمال لا صنعة فيها و لا تقدير و لا حكمة من مدبر و لا صانع) مضمون صحيح؛ علم له شاهد.
18. تعالى الله عما يصفون و قاتلهم الله أنى يؤفكون فهم في ضلالهم و غيهم و تجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء و أحسنه و فرشت بأحسن الفرش و أفخره و أعد فيها ضروب الأطعمة و الأشربة و الملابس و المآرب التي يحتاج إليها و لا يستغنى عنها و وضع كل شي ء من ذلك موضعه على صواب من التقدير و حكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يمينا و شمالا و يطوفون بيوتها إدبارا و إقبالا محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار و ما أعد فيها و ربما عثر بعضهم بالشي ء الذي قد وضع موضعه و أعد للحاجة إليه و هو جاهل للمعنى فيه و لما أعد و لما ذا جعل كذلك فتذمر و تسخط و ذم الدار و بانيها فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة و ثبات الصنعة فإنهم لما عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب و العلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى فلا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته و حسن صنعته و صواب هيئته و ربما وقف بعضهم على الشي ء يجهل سببه و الأرب فيه فيسرع إلى ذمه و وصفه بالإحالة و الخط كالذي أقدمت عليه المنانية الكفرة و جاهرت به الملحدة المارقة الفجرة و أشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم بالمحال ) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

مضمون صحيح (3)
19. فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته و هداه لدينه و وفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق و الوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير و صواب التقدير بالدلالة القائمة الدالة على صانعها أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك و يرغب إليه فيالثبات عليه و الزيادة منه فإنه جل اسمه يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) مضمون صحيح له شاهد.
مضمون صحيح (4)
20. يا مفضل أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هي عليه) مضمون صحيح له شاهد.
21. فإنك إذا تأملت العالم بفكرك و خبرته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده فالسماء مرفوعة كالسقف و الأرض ممدودة كالبساط و النجوم مضيئة كالمصابيح و الجواهر مخزونة كالذخائر و كل شي ء فيها لشأنه معد و الإنسان كالملك ذلك البيت و المخول جميع ما فيه و ضروب النبات مهيأة لمآربه و صنوف الحيوان مصروفة في مصالحه و منافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملائمة و أن الخالق له واحد و هو الذي ألفه و نظمه بعضا إلى بعض جل قدسه و تعالى جده و كرم وجهه و لا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون و جل و عظم عما ينتحله الملحدون) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له. 
22. نبدأ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء و لا دفع أذى و لا استجلاب منفعة و لا دفع مضرة فإنه يجرى إليه من دم الحيض ما يغذوه الماء و النبات فلا يزال ذلك غذاؤه
كيفية ولادة الجنين و غذائه و طلوع أسنانه و بلوغه حتى إذا كمل خلقه و استحكم بدنه و قوى أديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج و أعنفه حتى يولد فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثديها و انقلب الطعم و اللون إلى ضرب آخر من الغذاء و هو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ و حرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثدي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته فلا يزال يتغذى باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاءحتى إذا يحرك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد و يقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان و الأضراس ليمضغ بها الطعام فيلين عليه و يسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك و كان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر و عز الرجل الذي يخرج به من جد الصبا و شبه النساء و إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل و بقاؤه اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة هل ترى مثله يمكن أن يكون بالإهمال أ فرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم و هو في الرحم أ لم يكن سيذوي و يجف كما يجف النبات إذا فقد الماء و لو لم يزعجه المخاض عند استحكامه أ لم يكن سيبقى في الرحم كالموءود في الأرض و لو لم يوافقه اللبن مع ولادته أ لم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه و لا يصلح عليه بدنه و لو لم تطلع له الأسنان في وقتها أ لم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه و لا يصلح لعمل ثم كان يشغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
23. و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء فلا ترى له جلالة و لا وقارا قال المفضل فقلت له يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته و لا ينبت الشعر في وجهه و إن بلغ الكبر فقال ع ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شي ء من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد و التقدير يأتيان بالخطأ و المحال لأنهما ضد الإهمال و هذا فظيع من القول و جهل من قائله لأن الإهمال لا يأتي بالصواب و التضاد لا يأتي بالنظام تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
24. و لو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف و ورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة و يوما بعد يوم و اعتبر ذلك بأن من سبي من بلد و هو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع إلى تعلم الكلام و قبول الأدب كما يسرع الذي سبي صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه و رطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شي ء و حالا بعد حال حتى يألف الأشياء و يتمرن و يستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها و الحيرة فيها إلى التصرف و الاضطرار إلى المعاش بعقله و حيلته و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية و في هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد و ما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة و ما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء و حياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه و أمه و لا يمتنع من نكاح أمه و أخته و ذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن و أقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع و أعظم و أفظع و أقبح و أبشع لو خرج المولود من بطن أمه و هو يعقل أن يرى منها ما لا يحل له و لا يحسن به أن يراه أ فلا ترى كيف أقيم كل شي ء من الخلقة على غاية الصواب و خلا من الخطإ دقيقه و جليله. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
25. اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة و اعلم أن في أدمغة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة و عللا عظيمة من ذهاب البصر و غيره و البكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم و السلامة في أبصارهم أ فليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء و والداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان ليسكتانه و يتوخيان في الأمور مرضاته لئلا يبكي و هما لا يعلمان أن البكاء أصلح له و أجمل عاقبة فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال و لو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشي ء أنه لا منفعة فيه من أجل أنهم لا يعرفونه و لا يعلمون السبب فيه فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون و كثيرا ما يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جل قدسه و علت كلمته فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله و الجنون و التخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج و اللقوة و ما أشبههما فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم فتفضل على خلقه بما جهلوه و نظر لهم بما لم يعرفوه و لو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك من التمادي في معصيته فسبحانه ما أجل نعمته و أسبغها على المستحقين و غيرهم من خلقه تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
26. انظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر و الأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك عليه فجعل للذكر آلة ناشرة تمتد حتى تصل النطفة إلى الرحم إذا كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره و خلق للأنثى وعاء قعرا ليشتمل على الماءين جميعا و يحتمل الولد و يتسع له و يصونه حتى يستحكم أ ليس ذلك من تدبير حكيم لطيف سبحانه و تعالى عما يشركون أعضاء البدن و فوائد كل منها
فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع و تدبير كل منها للأرب فاليدان للعلاج و الرجلان للسعي و العينان للاهتداء و الفم للاغتذاء و المعدة للهضم و الكبد للتخليص و المنافذ لتنفيذ الفضول و الأوعية لحملها و الفرج لإقامة النسل و كذلك جميع الأعضاء إذا ما تأملتها و أعملت فكرك فيها و نظرك وجدت كل شي ء منها قد قدر لشي ء على صواب و حكمة
زعم الطبيعيين و جوابه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
27. قال المفضل فقلت يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة ) مضمون معتل لا شاهد له.
مضمون صحيح (5).
28. فقال ع سلهم عن هذه الطبيعة أ هي شي ء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم و القدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صنعته و إن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم و لا عمد و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما أجراها عليه) مضمون صحيح. له شاهد.
29. فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن و ما فيه من التدبير فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه و تبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة بينهما قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شي ء فينكاها و ذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ثم إن الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما و ينفذه إلى البدن كله في مجاري مهيئة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء ليطرد في الأرض كلها و ينفذ ما يخرج منه من الخبث و الفضول إلى مفايض قد أعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة و ما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال و ما كان من البلة و الرطوبة جرى إلى المثانة فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن و وضع هذه الأعضاء منه مواضعها و أعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه و تنهكه فتبارك من أحسن التقدير و أحكم التدبير و له الحمد كما هو أهله و مستحقه
أول نشوء الأبدان تصوير الجنين في الرحم
قال المفضل فقلت صف نشوء الأبدان و نموها حالا بعد حال حتى تبلغ التمام و الكمال قال ع أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين و لا تناله يد و يدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه و صلاحه من الأحشاء و الجوارح و العوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام و اللحم و الشحم و العصب و المخ و العروق و الغضاريف فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمو بجميع أعضائه و هو ثابت على شكل و هيئة لا تتزايد و لا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في عمره أو يستوفى مدته قبل ذلك هل هذا إلا من لطيف التدبير و الحكمة
اختصاص الإنسان بالانتصاب و الجلوس دون البهائم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
30. انظر يا مفضل ما خص به الإنسان في خلقه تشرفا و تفضلا على البهائم فإنه خلق ينتصب قائما و يستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه و جوارحه و يمكنه العلاج و العمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذوات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال
تخصص الإنسان بالحواس و تشرفه بها دون غيره
انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الإنسان في خلقه و شرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء و لم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين و الرجلين فتعترضها الآفات و يصيبها من مباشرة العمل و الحركة ما يعللها و يؤثر فيها و ينقص منها و لا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن و الظهر فيعسر تقلبها و اطلاعها نحو الأشياء
الحواس الخمس و أعمالها و ما في ذلك من الأسرار فلما لم يكن لها في شي ء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواس و هو بمنزلة الصومعة لها فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شي ء من المحسوسات فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان و لم يكن بصر يدركها لم تكن فيها منفعة و خلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات و لم يكن سمع يدركها لم يكن فيها أرب و كذلك سائر الحواس ثم هذا يرجع متكافيا فلو كان بصر و لم تكن الألوان لما كان للبصر معنى و لو كان سمع و لم تكن أصوات لم يكن للسمع موضع تقدير الحواس بعضها يلقى بعضا. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
31. فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكل حاسة محسوسا يعمل فيه و لكل محسوس حاسة تدركه و مع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس و المحسوسات لا تتم الحواس إلا بها كمثل الضياء و الهواء فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون و لو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت فهل يخفي على من صح نظره و أعمل فكره إن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس و المحسوسات بعضها يلقى بعضا و تهيئة أشياء أخر بها تتم الحواس لا يكون إلا بعمل و تقدير من لطيف خبير. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
32. فكر يا مفضل فيمن عدم البصر من الناس و ما يناله من الخلل في أموره فإنه لا يعرف موضع قدميه و لا يبصر ما بين يديه فلا يفرق بين الألوان و بين المنظر الحسن و القبيح و لا يرى حفرة إن هجم عليها و لا عدوا إن أهوى إليه بسيف و لا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة و التجارة و الصياغة حتى أنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى و كذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة فإنه يفقد روح المخاطبة و المحاورة و يعدم لذة الأصوات و اللحون المشجية و المطربة و تعظم المئونة على الناس في محاورته حتى يتبرموا به و لا يسمع شيئا من أخبار الناس و أحاديثهم حتى يكون كالغائب و هو شاهد أو كالميت و هو حي فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيرا مما تهتدي إليه البهائم أ فلا ترى كيف صارت الجوارح و العقل و سائر الخلال التي بها صلاح الإنسان و التي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها فلم كان كذلك إلا أنه خلق بعلم و تقدير قال المفضل فقلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي قال ع ذلك للتأديب و الموعظة لمن يحل ذلك به و لغيره بسببه كما يؤدب الملوك الناس للتنكيل و الموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم و يتصوب من تدبيرهم ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا و أنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب
الأعضاء المخلوقة أفرادا و أزواجا و كيفية ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
33. فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا و أزواجا و ما في ذلك من الحكمة و التقدير و الصواب في التدبير فالرأس مما خلق فردا و لم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له أكثر من واحد أ لا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا أرب فيه و لا حاجة إليه و إن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه و إن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ و أشباه هذا من الأخلاط و اليدان مما خلق أزواجا و لم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة لأن ذلك كان يخل به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء أ لا ترى أن النجار و البناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته و إن تكلف ذلك لم يحكمه و لم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل الصوت و الكلام و تهيئة آلاته في الإنسان و عمل كل منها
أطل الفكر يا مفضل في الصوت و الكلام و تهيئة آلاته في الإنسان فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت و اللسان و الشفتان و الأسنان لصياغة الحروف و النغم أ لا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين و من سقطت شفته لم يصحح الفاء و من ثقل لسانه لم يفصح الراء و أشبه شي ء بذلك المزمار الأعظم فالحنجرة تشبه قصبة المزمار و الرئة تشبه الزق الذي ينفخ فيه لتدخل الريح و العضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزامير و الشفتان و الأسنان التي تصوغ الصوت حروفا و نغما كالأصابع التي تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه و إن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة و التعريف فإن المزمار في الحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت ما في الأعضاء من المآرب الأخرى. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
34. قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام و إقامة الحروف و فيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان و باللسان تذاق الطعوم فيميز بينها و يعرف كل واحد منها حلوها من مرها و حامضها من مرها و مالحها من عذبها و طيبها من خبيثها و فيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام و الشراب و الأسنان لمضغ الطعام حتى يلين و تسهل إساغته و هي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما و تدعمهما من داخل الفم و اعتبر ذلك فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة و مضطربها و بالشفتين يترشف الشراب حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد و قدر لا يثج ثجا فيغص به الشارب أو ينكي في الجوف ثم همى بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحها الإنسان إذا شاء و يطبقها إذا شاء و فيما وصفنا من هذا بيان أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف و ينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى و ذلك كالفأس تستعمل في النجارة و الحفر و غيرهما من الأعمال
الدماغ و أغشيته و الجمجمة و فائدتها
و لو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض و تمسكه فلا يضطرب و لرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما تقيه هد الصدمة و الصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر و البرد فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه و جعله ينبوع الحس و المستحق للحيطة و الصيانة بعلو منزلته من البدن و ارتفاع درجته و خطير مرتبته
الجفن و أشفاره تأمل يا مفضل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء و الأشفار كالأشراح و أولجها في هذا الغار و أظلها بالحجاب و ما عليه من الشعر الفؤاد و مدرعته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
35. يا مفضل من غيب الفؤاد في جوف الصدر و كساه المدرعة التي غشاؤه و حصنه بالجوانح و ما عليها من اللحم و العصب لئلا يصل إليه ما ينكيه الحلق و المري ء
من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت و هو الحلقوم المتصل بالرئة و الآخر منفذا للغذاء و هو المري ء المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها و جعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل الرئة و عملها أشراج منافذ البول و الغائط
من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر و لا تختل لكيلا تتحير الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف من جعل لمنافذ البول و الغائط أشراجا تضبطهما لئلا يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا بل الذي لا يحصى منه و لا يعلمه الناس أكثر المعدة عصبانية و الكبد من جعل المعدة عصبانية شديدة و قدرها لهضم الطعام الغليظ و من جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء و لتهضم و تعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلا الله القادر أ ترى الإهمال يأتي بشي ء من ذلك كلا بل هو تدبير مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها لا يعجزه شي ء و هو اللطيف الخبير المخ و الدم و الأظفار و الأذن و لحم الأليتين و الفخذين
فكر يا مفضل لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام هل ذلك إلا ليحفظه و يصونه لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلا لتضبطه فلا يفيض لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها و معونة على العمل لم صار داخل الأذن ملتويا كهيأه اللولب إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع و ليكسر حمة الريح فلا ينكي في السمع لم حمل الإنسان على فخذيه و أليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليها كما يألم من نحل جسمه و قل لحمه إذا لم يكن بينه و بين الأرض حائل يقيه صلابتها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
36. الإنسان ذكر و أنثى و تناسله و آلات العمل و حاجته و حيلته و إلزامه بالحجة من جعل الإنسان ذكرا و أنثى إلا من خلقه متناسلا و من خلقه متناسلا إلا من خلقه مؤملا و من أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملا و من خلقه عاملا إلا من جعله محتاجا و من جعله محتاجا إلا من ضربه بالحاجة و من ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه و من خصه بالفهم إلا من أوجب الجزاء و من وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول و من ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره فكر و تدبر ما وصفته هل تجد الإهمال يأتي على مثل هذا النظام و الترتيب تبارك الله تعالى عما يصفون الفؤاد و ثقبه المتصلة بالرئة
أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد حتى لو اختلفت تلك الثقب و تزايل بعضها عن بعض لما وصل الروح إلى الفؤاد و لهلك الإنسان أ فيستجيز ذو فكرة و روية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال و لا يجد شاهدا من نفسه يزعه عن هذا القول لو رأيت فردا من مصراعين فيه كلوب أ كنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة و هكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل و بقائه فتبا و خيبة و تعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير و العمد فيها
فرج الرجل و الحكمة فيه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
37. لو كان فرج الرجل مسترخيا كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتى يفرغ النطفة فيه و لو كان منعضا أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش أو يمشي بين الناس و شي ء شاخص أمامه ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال و النساء جميعا فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت و لا يكون على الرجال منه مؤنة بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك لما قدر أن يكون فيه من دوام النسل و بقائه
منفذ الغائط و وصفه
اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الإنسان في مطعمه و مشربه و تسهيل خروج الأذى أ ليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه فلم يجعله بارزا من خلفه و لا ناشزا من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان و تحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء و جلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصبا مهيأ لانحدار الثفل فتبارك من تظاهرت آلاؤه و لا تحصى نعماؤه الطواحن من أسنان الإنسان
فكر يا مفضل في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان فبعضها حداد لقطع الطعام و قرضه و بعضها عراض لمضغه و رضه فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجا إليهما جميعا
الشعر و الأظفار و فائدة قصهما. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
38. تأمل و اعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر و الأظفار فإنهما لما كانا مما يطول و يكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا جعلا عديما الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما و لو كان قص الشعر و تقليم الأظفار مما يوجد له ألم وقع من ذلك بين مكروهين إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه و إما أن يخففه بوجع و ألم يتألم منه قال المفضل فقلت فلم لم يجعل ذلك خلقة لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه فقال ع إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا يعرفها فيحمده عليها اعلم أن آلام البدن و أدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامه و بخروج الأظفار من أناملها و لذلك أمر الإنسان بالنورة و حلق الرأس و قص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر و الأظفار في النبات فتخرج الآلام و الأدواء بخروجهما و إذا طالا تحيرا و قل خروجهما فاحتبست الآلام و الأدواء في البدن فأحدثت عللا و أوجاعا و منع مع ذلك الشعر من المواضع التي تضر بالإنسان و تحدث عليه الفساد و الضر لو نبت الشعر في العين أ لم يكن سيعمى البصر و لو نبت في الفم أ لم يكن سينغص على الإنسان طعامه و شرابه و لو نبت في باطن الكف أ لم يكن سيعوقه عن صحة اللمس و بعض الأعمال و لو نبت في فرج المرأة و على ذكر الرجل أ لم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع فانظر كيف تنكب الشعر عن هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ثم ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم و السباع و سائر المتناسلات فإنك ترى أجسامها مجللة بالشعر و ترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطإ و المضرة و تأتي بالصواب و المنفعة
شعر الركب و الإبطين. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
39. إن المنانية و أشباههم حين أجهدوا في عيب الخلقة و العمد عابوا الشعر النابت على الركب و الإبطين و لم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنفع المياه أ فلا ترى إلى هذه المواضع أستر و أهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مؤنة هذا البدن و تكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإن اهتمامه بتنظيف بدنه و أخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته و يكف عاديته و يشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و البطالة
الريق و ما فيه من المنفعة
تأمل الريق و ما فيه من المنفعة فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق و اللهوات فلا يجف فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الأسنان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه تشهد بذلك المشاهدة و اعلم أن الرطوبة مطية الغذاء و قد تجري من هذه البله إلى مواضع أخر من المرة فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان و لو يبست المرة لهلك الإنسان
محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
40. و لقد قال قوم من جهلة المتكلمين و ضعفة المتفلسفين بقلة التمييز و قصور العلم لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه و يدخل يده فيعالج ما أراد علاجه أ لم يكن أصلح من أن يكون مصمتا محجوبا عن البصر و اليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول و جس العرق و ما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط و الشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أن كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض و الموت و كان يستشعر البقاء و يغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو و الأشر ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح و تتحلب فيفسد على الإنسان مقعده و مرقده و ثياب بدلته و زينته بل كان يفسد عليه عيشه ثم إن المعدة و الكبد و الفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته و اليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزية و بطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان أ فلا ترى أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ و خطل. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
41. فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم و النوم و الجماع و ما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه و يستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحة البدن و قوامه و الكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن و إجمام قواه و الشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل و بقاؤه و لو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه و لم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالثقل و الكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشي ء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض و الموت و كذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالفكر في حاجته إلى راحة البدن و إجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه و لو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد و لا يحفل به فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان و صلاحه محركا من نفس الطبع يحركه لذلك و يحدوه عليه و اعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء و تورده على المعدة و قوة ماسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها و قوة هاضمة و هي التي تطبخه و تستخرج صفوه و تبثه في البدن و قوة دافعة تدفعه و تحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن و أفعالها و تقديرها للحاجة إليها و الأرب فيها و ما في ذلك من التدبير و الحكمة فلو لا الجاذبة كيف كان يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن و لو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة و لو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن و يسد خلله و لو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع و يخرج أولا فأولا أ فلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطف صنعه و حسن تقديره هذه القوى بالبدن و القيام بما فيه صلاحه و سأمثل لك في ذلك مثالا إن البدن بمنزلة دار الملك له فيها حشم و صبية و قوام موكلون بالدار فواحد لقضاء حوائج الحشم و إيرادها عليهم و آخر لقبض ما يرد و خزنة إلى أن يعالج و يهيأ و آخر لعلاج ذلك و تهيئته و تفريقه و آخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار و إخراجه منها فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين و الدار هي البدن و الحشم هم الأعضاء و القوام هم هذه القوى الأربع و لعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع و أفعالها بعد الذي وصفت فضلا و تزدادا و ليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء و لا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب و تصحيح الأبدان و ذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين و شفاء النفوس من الغي كالذي أوضحته بالوصف الشافي و المثل المضروب من التدبير و الحكمة فيها
قوى النفس و موقعها من الإنسان
تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس و موقعها من الإنسان أعني الفكر و الوهم و العقل و الحفظ و غير ذلك أ فرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله و كم من خلل كان يدخل عليه في أموره و معاشه و تجاربه إذا لم يحفظ ما له و ما عليه و ما أخذه و ما أعطى و ما رأى و ما سمع و ما قال و ما قيل له و لم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به و ما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى و لا يحفظ علما و لو درسه عمره و لا يعتقد دينا و لا ينتفع بتجربة و لا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية
النعمة على الإنسان في الحفظ و النسيان فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال و كيف موقع الواحدة منها دون الجميع و أعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة و لا انقضت له حسرة و لا مات له حقد و لا استمتع بشي ء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات و لا رجاء غفلة من سلطان و لا فترة من حاسد أ فلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ و النسيان و هما مختلفان متضادان و جعل له في كل منهما ضربا من المصلحة و ما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة و قد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح و المنفعة
اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات
انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف و لم يوف بالعداة و لم تقض الحوائج و لم يتحر الجميل و لم يتنكب القبيح في شي ء من الأشياء حتى إن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لو لا الحياء لم يرع حق والديه و لم يصل ذا رحم و لم يؤد أمانة و لم يعف عن فاحشة أ فلا ترى كيف وفى الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه و تمام أمره
اختصاص الإنسان بالمنطق و الكتابة. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
42. تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره و ما يخطر بقلبه و ينتجه فكره و به يفهم عن غيره ما في نفسه و لو لا ذلك كان بمنزله البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشي ء و لا تفهم عن مخبر شيئا و كذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين و أخبار الباقين للآتين و بها تخلد الكتب في العلوم و الآداب و غيرها و بها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه و بين غيره من المعاملات و الحساب و لولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض و أخبار الغائبين عن أوطانهم و درست العلوم و ضاعت الآداب و عظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم و معاملاتهم و ما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم و ما روى لهم مما لا يسعهم جهله و لعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة و الفطنة و ليست مما أعطيه الإنسان من خلقه و طباعه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (6)
43. و كذلك الكلام إنما هو شي ء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم و لهذا صار يختلف في الأمم المختلفة و كذلك لكتابة العربي و السرياني و العبراني و الرومي و غيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان و إن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشي ء الذي يبلغ به ذلك الفعل و الحيلة عطية و هبة من الله عز و جل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام و ذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا و لو لم تكن له كف مهيئة و أصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا و اعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها و لا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل و عز و ما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب و من كفر فإن الله غني عن العالمين)  مضمون صحيح له شاهد.
44. فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه و ما منع فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه و دنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك و تعالى بالدلائل و الشواهد القائمة في الخلق و معرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة و بر الوالدين و أداء الأمانة و مواساة أهل الخلة و أشباه ذلك مما قد توجد معرفته و الإقرار و الاعتراف به في الطبع و الفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة و كذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة و الغراس و استخراج الأرضين و اقتناء الأغنام و الأنعام و استنباط المياه و معرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام و المعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر و ركوب السفن و الغوص في البحر و ضروب الحيل في صيد الوحش و الطير و الحيتان و التصرف في الصناعات و وجوه المتاجر و المكاسب و غير ذلك مما يطول شرحه و يكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار . مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (7)
45. فأعطي علم ما يصلح به دينه و دنياه و منع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه و لا طاقته أن يعلم كعلم الغيب و ما هو كائن و بعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء و ما تحت الأرض و ما في لجج البحار و أقطار العالم و ما في قلوب الناس و ما في الأرحام و أشباه هذا مما حجب عن الناس علمه وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه و يحكمون به فيما ادعوا عليه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه و دنياه و حجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره و نقصه و كلا الأمرين فيها صلاحه. مضمون صحيح له شاهد.
46. تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره و كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت و توقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس و إن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله أ لا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كل الأمور و في كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أ و ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شي ء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له و تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه و يبني عليه أمره فيصفح الله عنه و يتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل و يعد و يمني نفسه التوبة في الأجل و لأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه و التلذذ و معاناة التوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل و قد نفذ المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصالح فإن قلت و ها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم قلنا إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوى و لا ينصرف عن المساوئ فإنما ذلك من مرحه و من قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره و لا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته و لم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه و لئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت و إن كان صنف من الناس يلهون عنه و لا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها
الأحلام و امتزاج صادقها بكاذبها و سر ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (8)
47. فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء و لو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها و تكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.) مضمون صحيح له شاهد.
48. فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء و الحديد للصناعات و الخشب للسفن و غيرها و الحجارة للأرحاء و غيرها و النحاس للأواني و الذهب و الفضة للمعاملة و الذخيرة و الحبوب للغذاء و الثمار للتفكه و اللحم للمأكل و الطيب للتلذذ و الأدوية للتصحح و الدواب للحمولة و الحطب للتوقد و الرماد للكلس و الرمل للأرض و كم عسى أن يحصي المحصي من هذا و شبهه أ رأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس و رأى كلما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة أ كان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال و من غير عمد فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم و ما أعد فيه من هذه الأشياء اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان و ما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه و كلف طحنه و عجنه و خبزة و خلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه و غزله و نسجه و خلق له الشجر فكلف غرسها و سقيها و القيام عليها و خلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها و خلطها و صنعها و كذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال فانظر كيف كفى الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة و ترك عليه في كل شي ء من الأشياء موضع عمل و حركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفى هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل و عمل لما حملته الأرض أشرا و بطرا و لبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه و لو كفى الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنئوا بالعيش و لا وجدوا له لذة أ لا ترى لو أن امرأ نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب و خدمة لتبرم بالفراغ و نازعته نفسه إلى التشاغل بشي ء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شي ء فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة و لتكفه عن تعاطي ما لا يناله و لا خير فيه إن ناله . مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له. 
49. و اعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان و حياته الخبز و الماء فانظر كيف دبر الأمر فيهما فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز و ذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش و الذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز لأنه يحتاج إليه لشربه و وضوئه و غسله و غسل ثيابه و سقي أنعامه و زرعه فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه و تكلفه و جعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة و الحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و العبث أ لا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب و هو طفل لم تكمل ذاته للتعليم كل ذلك ليشتغل عن اللعب و العبث الذين ربما جنيا عليه و على أهله المكروه العظيم و هكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر و العبث و البطر إلى ما يعظم ضرره عليه و على من قرب منه و اعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة و رفاهية العيش و الترفه و الكفاية و ما يخرجه ذلك إليه اختلاف صور الناس و تشابه الوحوش و الطير و غيرها من الحكمة في ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
50. اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش و الطير و غير ذلك فإنك ترى السرب من الظباء و القطا تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها و بين الأخرى و ترى الناس مختلفة صورهم و خلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة و العلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم و حلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات و ليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه و حليته أ لا ترى أن التشابه في الطير و الوحش لا يضرها شيئا و ليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأم تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر و يؤخذ أحدهما بذنب الآخر و قد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شي ء لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط و قال لك قائل إن هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أ كنت تقبل ذلك بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد و لا تنكر في الإنسان الحي الناطق . مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
51. لم صارت أبدان الحيوان و هي تغتذي أبدا لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف و لا تتجاوزها لو لا التدبير في ذلك فإن تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير و الصغير و صارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم تقف ثم لا تزيد و الغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع و لو تنمي نموا دائما لعظمت أبدانها و اشتبهت مقاديرها حتى لا يكون لشي ء منها حد يعرف
ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة و المشي لو لم يصبها ألم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له. 
52. لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة و المشي و تجفو عن الصناعات اللطيفة إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس و المضجع و التكفين و غير ذلك لو كان الإنسان لا يصيبه ألم و لا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش و يتواضع لله و يتعطف على الناس. أ ما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع و استكان و رغب إلى ربه في العافية و بسط يده بالصدقة و لو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار و يذل العصاة المردة و بم كان الصبيان يتعلمون العلوم و الصناعات و بم كان العبيد يذلون لأربابهم و يذعنون لطاعتهم أ فليس هذا توبيخ ابن أبي العوجاء و ذويه الذين جحدوا التدبير و المانوية الذين أنكروا الوجع و الألم
انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا و إناثا
و لو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو أنثى فقط أ لم يكن النسل منقطعا و باد مع أجناس الحيوان فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا و بعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل و لا ينقطع
ظهور شعر العانة عند البلوغ و نبات اللحية للرجل دون المرأة و ما في ذلك من التدبير. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
53. لم صار الرجل و المرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة ثم تنبت اللحية للرجل و تتخلف عن المرأة لو لا التدبير في ذلك فإنه لما جعل الله تبارك و تعالى الرجل قيما و رقيبا على المرأة و جعل المرأة عرسا و خولا للرجل أعطى الرجل اللحية لما له من العز و الجلالة و الهيبة و منعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه و البهجة التي تشاكل المفاكهة و المضاجعة أ فلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء و تتخلل مواضع الخطإ فتعطي و تمنع على قدر الأرب و المصلحة بتدبير الحكيم عز و جل قال المفضل ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة و قال بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته مبتهجا بما أوتيته حامدا لله تعالى عز و جل على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي و تفضل به علي فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه محبور بما علمنيه
مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.








فصل المجلس الثاني
54. قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال الحمد لله مدبر الأدوار و معيد الأكوار طبقا عن طبق و عالما بعد عالم ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى عدلا منه تقدست أسماؤه و جلت آلاؤه لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون يشهد بذلك قوله جل قدسه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ في نظائر لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شي ء و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد و لذلك قال سيدنا محمد ص إنما هي أعمالكم ترد إليكم ) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
55. ثم أطرق الإمام هنيئة و قال يا مفضل الخلق حيارى عمهون سكارى في طغيانهم يترددون و بشياطينهم و طواغيتهم يقتدون بصراء عمى لا يبصرون نطقاء بكم لا يعقلون سمعاء صم لا يسمعون رضوا بالدون و حسبوا أنهم مهتدون حادوا عن مدرجة الأكياس و رتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون و عن المجازات مزحزحون يا ويلهم ما أشقاهم و أطول عناءهم و أشد بلاءهم يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون إلا من رحم الله قال المفضل فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت و نجوت إذ عرفت أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها و إيضاح ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
56. ثم قال أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة و لو كانت كذلك لا تنثني و لا تتصرف في الأعمال و لا هي على غاية اللين و الرخاوة فكانت لا تتحامل و لا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب و عروق تشده و تضم بعضه إلى بعض و غلقت فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله و أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان و تلف بالخرق و تشد بالخيوط و تطلي فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة العظام و الخرق بمنزلة اللحم و الخيوط بمنزلة العصب و العروق و الطلاء بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان
أجساد الأنعام و ما أعطيت و ما منعت و سبب ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
57. و فكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم و العظم و العصب أعطيت أيضا السمع و البصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان و لا تصرفت في شي ء من مآربه ثم منعت الذهن و العقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد و حملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون و يذعنون بالكد الشديد و هم مع ذلك غير عديمي العقل و الذهن فيقال في جواب ذلك إن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل و الطحن و ما أشبه ذلك و لا يغرون بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد و البغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشي ء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم و الضيق و الكد في معاشهم
خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان و في خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن و فطنة و علاج لمثل هذه الصناعات من البناء و التجارة و الصياغة و الخياطة و غير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء و أوكدها هذه الصناعات
آكلات اللحم من الحيوان و التدبير في خلقها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
58. و آكلات اللحم لما قدر أن تكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن و مخالب تصلح لأخذ الصيد و لا تصلح للصناعات و آكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعه و لا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى و لبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب و الحمولة تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد و براثن شداد و أشداق و أفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقه تشاكل ذلك و أعينت بسلاح و أدوات تصلح للصيد و كذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير و مخالب مهيئة لفعلها و لو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه لأنها لا تصيد و لا تأكل اللحم و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به و تتعيش أ فلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه و طبقته بل ما فيه بقاؤه و صلاحه
ذوات الأربع و استقلال أولادها
انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل و التربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق و العلم بالتربية و القوة عليها بالأكف و الأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض و الاستقلال بأنفسها و كذلك ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج و الدراج و القبج تدرج و تلقط حين تنقاب عنها البيضة فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام و اليمام و الحمر فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها و لذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد و لا تموت فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
59. انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي و لو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة و يعتمد على واحدة و ذو الأربع ينقل اثنتين و يعتمد على اثنتين و ذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه و يعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير و ما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره و ينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض و لا يسقط إذا مشى
انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان و سببه
أ ما ترى الحمار كيف يذل للطحن و الحمولة و هو يرى الفرس مودعا منعما و البعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي و الثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه و يحرث به و الفرس الكريم يركب السيوف و الأسنة بالمواتاة لفارسه و القطيع من الغنم يرعاه واحد و لو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في ناحية لم يلحقها و كذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل و الروية فإنها لو كانت تعقل و تتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده و الثور على صاحبه و تتفرق الغنم عن راعيها و أشباه هذا من الأمور
افتقاد السباع للعقل و الروية و فائدة ذلك
و كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل و رويه فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد و الذئاب و النمور و الدببة لو تعاونت و تظاهرت على الناس أ فلا ترى كيف حجر ذلك عليها و صارت مكان ما كان يخاف من إقدامها و نكايتها تهاب مساكن الناس و تحجم عنها ثم لا تظهر و لا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة ممنوعة منهم و لو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم و ضيقت عليهم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

مضمون صحيح (9)
60. جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه و محاماة عنه و حافظ له ينتقل على الحيطان و السطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه و ذب الذعار عنه و يبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه و دون ماشيته و ماله و يألفه غاية الألف حتى يصبر معه على الجوع و الجفوة فلم طبع الكلب على هذه الألفة و المحبة إلا ليكون حارسا للإنسان) مضمون صحيح له شاهد.

61. له عين بأنياب و مخالب و نباح هائل ليذعر منه السارق و يتجنب المواضع التي يحميها و يخفرها
وجه الدابة و فمها و ذنبها و شرح ذلك ) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
62. يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردى في حفرة و ترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم و لو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض أ لا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه و لكن بيده تكرمه له على سائر الأكلات فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها مشقوقا من أسفله لتقبض على العلف ثم تقضمه و أعينت بالجحفلة لتتناول بها ما قرب و ما بعد اعتبر بذنبها و المنفعة لها فيه فإنه بمنزلة الطبق على الدبر و الحياء جميعا يواريهما و يسترهما و من منافعها فيه أن ما بين الدبر و مراقي البطن منها وضر يجتمع عليها الذباب و البعوض فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن تلك المواضع و منها أن الدابة تستريح إلى تحريكه و تصريفه يمنة و يسرة فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها و شغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف و التقلب كان لها في تحريك الذنب راحة و فيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل فلا يكون شي ء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها و في شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها و جعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها و لو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة لم يتمكن الفحل منها أ لا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا كما يأتي الرجل المرأة. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

63. تأمل مشفر الفيل و ما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف و الماء و ازدرادهما إلى جوفه و لو لا ذلك لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسد له فيتناول به حاجته فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه و كيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة فإن قال قائل فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام قيل إن رأس الفيل و أذنيه أمر عظيم و ثقل ثقيل فلو كان ذلك على عنق عظيم لهدها و أوهنها فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه و خلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدم العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
64. انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب ارتفع و برز حتى يتمكن الفحل من ضربها فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل و دوامه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
فكر في خلق الزرافة و اختلاف أعضائها و شبهها بأعضاء أصناف من الحيوان فرأسها رأس فرس و عنقها عنق جمل و أظلافها أظلاف بقرة و جلدها جلد نمر و زعم ناس من الجهال بالله عز و جل أن نتاجها من فحول شتى قالوا و سبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة و ينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى و هذا جهل من قائله و قله معرفة بالبارئ جل قدسه و ليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف فلا الفرس يلقح الجمل و لا الجمل يلقح البقر و إنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله و يقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل و يلقح الذئب الضبع فيخرج من بينهما السمع على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس و عضو من الجمل و أظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في البغل فإنك ترى رأسه و أذنيه و كفله و ذنبه و حوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس و الحمار و شحيجه كالممتزج من صهيل الفرس و نهيق الحمار فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شي ء و ليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء و يفرق ما شاء منها في أيها شاء و يزيد في الخلقة ما شاء و ينقص منها ما شاء دلالة على قدرته على الأشياء و أنه لا يعجزه شي ء أراده جل و تعالى فأما طول عنقها و المنفعة لها في ذلك فإن منشأها و مرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
65. تأمل خلقة القرد و شبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس و الوجه و المنكبين و الصدر و كذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان و خص مع ذلك بالذهن و الفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه و يحكى كثيرا مما يرى الإنسان يفعله حتى إنه يقرب من خلق الإنسان و شمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم و سنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب و أنه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن و العقل و النطق كان كبعض البهائم على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه و بين الإنسان كالخطم و الذنب المسدل و الشعر المجلل للجسم كله و هذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان و عقله و نطقه و الفصل الفاصل بينه و بين الإنسان في الحقيقة هو النقص في العقل و الذهن و النطق
إكساء أجسام الحيوانات و خلقة أقدامها بعكس الإنسان و أسباب ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له. 
66. انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر و الوبر و الصوف لتقيها من البرد و كثرة الآفات ألبست الأظلاف و الحافر و الأخفاف لتقيها من الحفاء إذ كانت لا أيدي لها و لا أكف و لا أصابع مهيأة للغزل و النسج فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها و استبدال بها فأما الإنسان فإنه ذو حيلة و كف مهيأة للعمل فهو ينسج و يغزل و يتخذ لنفسه الكسوة و يستبدل بها حالا بعد حال و له في ذلك صلاح من جهات من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث و ما تخرجه إليه الكفاية و منها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء و لبسها إذا شاء و منها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال و روعة فيتلذذ بلبسها و تبديلها و كذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف و النعال يقي بها قدميه و في ذلك معايش لمن يعمله من الناس و مكاسب يكون فيها معايشهم و منها أقواتهم و أقوات عيالهم فصار الشعر و الوبر و الصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة و الأظلاف و الحوافر و الأخفاف مقام الحذاء مواراة البهائم عند إحساسها بالموت. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
67. فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم فإنهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم و إلا فأين جيف هذه الوحوش و السباع و غيرها لا يرى منها شي ء و ليست قليلة فتخفى لقلتها بل لو قال قائل أنها أكثر من الناس لصدق فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحاري و الجبال من أسراب الظباء و المها و الحمير الوحش و الوعول و الأيائل و غير ذلك من الوحوش و أصناف السباع من الأسد و الضباع و الذئاب و النمور و غيرها و ضروب الهوام و الحشرات و دواب الأرض و كذلك أسراب الطير من الغربان و القطاة و الإوز و الكراكي و الحمام و سباع الطير جميعا و كلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها و لو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء و تحدث الأمراض و الوباء فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس و عملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا و أذكارا في البهائم و غيرها ليسلم الناس من معرة ما يحدث عليهم من الأمراض و الفساد. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
68. فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع و الخلقة لطفا من الله عز و جل لهم لئلا يخلو من نعمه جل و عز أحد من خلقه لا بعقل و روية فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله و يقف على الغدير و هو مجهود عطشا فيعج عجيجا عاليا و لا يشرب منه و لو شرب لمات من ساعته فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظمأ الغالب الشديد خوفا من المضرة في الشرب و ذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه و الثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت و نفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها فمن أعان الثعلب العديم النطق و الروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا و شبهه فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه السباع من مساورة الصيد أعين بالدهاء و الفطنة و الاحتيال لمعاشه و الدلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله و يسرحه حتى يطفو على الماء ثم يكمن تحته و يثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة
التنين و السحاب. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
69. قال المفضل فقلت أخبرني يا مولاي عن التنين و السحاب فقال ع إن السحاب كالموكل به يختطفه حيثما ثقفه كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من السحاب و لا يخرج إلا في القيظ مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة من غيمة قلت فلم وكل السحاب بالتنين يرصده و يختطفه إذا وجده قال ليدفع عن الناس مضرته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
70. قال المفضل فقلت قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر فصف لي الذرة و النملة و الطير فقال ع يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها فمن أين هذا التقدير و الصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره انظر إلى النمل و احتشاده في جمع القوت و أعداده فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد و التشمير ما ليس للناس مثله أ ما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم فإن أصابه ندي أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها و كل هذا منه بلا عقل و لا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل و عز انظر إلى هذا الذي يقال له الليث و تسميه العامة أسد الذباب و ما أعطي من الحيلة و الرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمأن و غفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث تناله وثبته ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف و استرخى ثم يقبل عليه فيفترسه و يحيى بذلك منه فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا و مصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه فذلك يحكي صيد الكلاب و الفهود و هذا يحكي صيد الإشراك و الحبائل فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة و استعمال الآلات فيها ) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (10)
71. فلا تزدرى بالشي ء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة و النملة و ما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشي ء الحقير فلا يضع منه) مضمون صحيح له شاهد.
72. ذلك كما لا يضع من الدينار و هو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد جسم الطائر و خلقته تأمل يا مفضل جسم الطائر و خلقته فإنه حين قدر أن يكون طائرا في الجو خفف جسمه و أدمج خلقه و اقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين و من الأصابع الخمس على أربع و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء و تنفذ فيه و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران و كسا كله الريش ليتداخله الهواء فيقله و لما قدر أن يكون طعمه الحب و اللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقة الإنسان و خلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه فلا ينسحج من لقط الحب و لا يتقصف من نهش اللحم و لما عدم الأسنان و صار يزدرد الحب صحيحا و اللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ و اعتبر ذلك بأن عجم العنب و غيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا و يطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل مما يبيض بيضا و لا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته و عاقته عن النهوض و الطيران فجعل كل شي ء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا و بعضها أسبوعين و بعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسع حوصلته للغذاء ثم يربيه و يغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم و الحب يستخرجه بعد أن يستقر في حوصلته و يغذو به فراخه و لأي معنى يحتمل هذه المشقة و ليس بذي روية و لا تفكر و لا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العز و الرفد و بقاء الذكر فهذا من فعله يشهد أنه معطوف على فراخه لعله لا يعرفها و لا يفكر فيها و هي دوام النسل و بقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره
الدجاجة و تهيجها لحضن البيض و التفريخ
انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض و التفريخ و ليس لها بيض مجتمع و لا وكر موطأ بل تنبعث و تنتفخ و تقوى و تمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه و تفرخ فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل و من أخذها بإقامة النسل و لا روية لها و لا تفكير لو لا أنها مجبولة على ذلك خلق البيضة و التدبير في ذلك
اعتبر بخلق البيضة و ما فيها من ألمح الأصفر الخاثر و الماء الأبيض الرقيق فبعضه ينشو منه الفرخ و بعضه ليغتذى به إلى أن تنقاب عنه البيضة و ما في ذلك من التدبير فإنه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحفظة التي لا مساغ لشي ء إليها جعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه.  . مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
73. فكر يا مفضل في حوصلة الطائر و ما قدر له فإن مسلك الطعم إلى القانصة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال عليه و متى كان يستوفي طعمه فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثم تنفذه إلى القانصة على مهل و في الحوصلة أيضا خلة أخرى فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
74. قال المفضل فقلت إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان و الأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط و اختلاف مقاديرها المرج و الإهمال قال يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس و الدراج و التدارج على استواء و مقابلة كنحو ما يخط بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف و لو كان بالإهمال لعدم الاستواء و لكان مختلفا
ريش الطائر و وصفه
تأمل ريش الطير كيف هو فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط و الشعرة إلى الشعرة ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا و لا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر إذا طار و ترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته و هو القصبة التي في وسط الريشة و هو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر و لا يعوقه عن الطيران
الطائر الطويل الساقين و التدبير في ذلك
هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين و عرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فإنه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة فوق مرقب و هو يتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى شيئا مما يتقوت به خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله و لو كان قصير الساقين و كان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور و يذعر منه فيفرق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته و لا يفسد عليه مطلبه تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق و ذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض و لو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرضو ربما أعين مع العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة و إمكانا أ فلا ترى أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب و الحكمة. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
75. انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده و لا تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة و الطلب و كذلك الخلق كله فسبحان من قدر الرزق كيف فرقه فلم يجعل مما لا يقدر عليه إذ جعل بالخلق حاجة إليه و لم يجعل مبذولا ينال بالهوينا إذ كان لا صلاح في ذلك فإنه لو كان يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تنقلب عليه و لا تنقلع عنه حتى تبشم فتهلك و كان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر و البطر حتى يكثر الفساد و تظهر الفواحش
معاش البوم و الهام و الخفاش
أ علمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل كمثل البوم و الهام و الخفاش قلت لا يا مولاي قال إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض و الفراش و أشباه الجراد و اليعاسيب و ذلك أن هذه الضروب مبثوثه في الجو لا يخلو منها موضع و اعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذه الضروب شي ء كثير فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل إنه يأتي من الصحاري و البراري قيل له كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد و كيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه مع أن هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو و اعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
76. خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير و ذوات الأربع هو إلى ذوات الأربع أقرب و ذلك أنه ذو أذنين ناشزتين و أسنان و وبر  هو يلد ولادا و يرضع و يبول و يمشي إذا مشى على أربع و كل هذا خلاف صفة الطير ثم هو أيضا مما يخرج بالليل و يتقوت بما يسرى في الجو من الفراش و ما أشبهه و قد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش و إن غذاءه من النسيم وحده و ذلك يفسد و يبطل من جهتين أحدهما خروج الثفل و البول منه فإن هذا لا يكون من غير طعم و الأخرى أنه ذو أسنان و لو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى و ليس في الخلقة شي ء لا معنى له و أما المآرب فيه فمعروفة حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال و من أعظم الأرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل ثناؤه و تصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة
حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة و منفعتها
فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن نمرة فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها تبغيه لتبتلعه فبينما هو يتقلب و يضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي و تتقلب حتى ماتت أ فرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة اعتبر بهذا و كثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث أو خبر يسمع به
النحل عسله و بيوته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

77. انظر إلى النحل و احتشاده في صنعة العسل و تهيئة البيوت المسدسة و ما ترى في ذلك من دقائق الفطنة فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا و إذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس و إذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه فضلا عما سوى ذلك ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب و الحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها و سخره فيها لمصلحة الناس الجراد و بلاؤه انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه و أقواه فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء و إن دلفت عساكره نحو بلد من بلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه أ لا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله و رجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك أ فليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه
كثرة الجراد انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشى السهل و الجبل و البدو و الحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي متى كان تجتمع منه هذه الكثرة و في كم سنة كان يرتفع فأستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شي ء و لا يكثر عليها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
78. أمل خلق السمك و مشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء و خلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس و هو منغمس في اللجة و جعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة و كسا جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع و الجواشن لتقيه من الآفات فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف و الماء يحجبه فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه فيتبعه و إلا فكيف يعلم به و بموضعه و اعلم أن من فيه إلى صماخه منافذ فهو يعب الماء بفيه و يرسله من صماخيه فيتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
79. كثرة نسل السمك و علة ذلك
فكر الآن في كثرة نسله و ما خص به من ذلك فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة و العلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان فإن أكثرها يأكل السمك حتى أن السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك فإذا مر بها خطفته فلما كانت السباع تأكل السمك و الطير يأكل السمك و الناس يأكلون السمك و السمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة
سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك و دواب الماء و الأصداف و الأصناف التي لا تحصى و لا تعرف منافعها إلا الشي ء بعد الشي ء يدركه الناس بأسباب تحدث مثل القرمز فإنه لما عرف الناس صبغه بأن كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى الحلزون فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغا و أشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال و زمانا بعد زمان قال المفضل و حان وقت الزوال فقام مولاي ع إلى الصلاة و قال بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت و قد تضاعفت سروري بما عرفنيه مبتهجا بما منحنيه حامدا لله على ما آتانيه فبت ليلتي مسرورا مبتهجا. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

















فصل المجلس الثالث

80. فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست فقال ع الحمد لله الذي اصطفانا و لم يصطف علينا اصطفانا بعلمه و أيدنا بحلمه من شذ عنا فالنار مأواه و من تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان و ما دبر به و تنقله في أحواله و ما فيه من الاعتبار و شرحت لك أمر الحيوان و أنا أبتدئ الآن بذكر السماء و الشمس و القمر و النجوم و الفلك و الليل و النهار و الحر و البرد و الرياح و الجواهر الأربعة الأرض و الماء و الهواء و النار و المطر و الصخر و الجبال و الطين و الحجارة و النخل و الشجر و ما في ذلك من الأدلة و العبر
لون السماء و ما فيه من صواب التدبير
فكر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة و تقوية للبصر حتى أن من صفات الأطباء لمن أصابه شي ء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة و ما قرب منها إلى السواد و قد وصف الحذاق منهم لمن كل بصره الاطلاع في إجانة خضراء مملوءة ماء فانظر كيف جعل الله جل و تعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة عليه فلا ينكي فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر و الروية و التجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون و يفكر فيها الملحدون قاتلهم الله أنى يؤفكون
طلوع الشمس و غروبها و المنافع في ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

81. فكر يا مفضل في طلوع الشمس و غروبها لإقامة دولتي النهار و الليل فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كله فلم يكن الناس يسعون في معايشهم و يتصرفون في أمورهم و الدنيا مظلمة عليهم و لم يكونوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور و روحه و الأرب في طلوعها ظاهر مستغنى بظهوره عن الإطناب في ذكره و الزيادة في شرحه بل تأمل المنفعة في غروبها فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء و لا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء و الراحة لسكون أبدانهم و جموم حواسهم و انبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل و مطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء و لا قرار حرصا على الكسب و الجمع و الادخار ثم كانت الأرض تستحمى بدوام الشمس بضيائها و يحمى كل ما عليها من حيوان و نبات فقدرها الله بحكمته و تدبيره تطلع وقتا و تغرب وقتا بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا و يقروا فصار النور و الظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

82. ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس و انحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة و ما في ذلك من التدبير و المصلحة ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر و النبات فيتولد فيهما مواد الثمار و يتكثف الهواء فينشأ منه السحاب و المطر و تشتد أبدان الحيوان و تقوى و في الربيع تتحرك و تظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات و تنور الأشجار و يهيج الحيوان للسفاد و في الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار و تتحلل فضول الأبدان و يجف وجه الأرض فتهيأ للبناء و الأعمال و في الخريف يصفو الهواء و ترتفع الأمراض و تصح الأبدان و يمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله و يطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام.

83. فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة و ما في ذلك من التدبير فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة الشتاء و الربيع و الصيف و الخريف تستوفيها على التمام و في هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات و الثمار و تنتهي إلى غاياتهم ثم تعود فيستأنف النشو و النمو أ لا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة و أخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت و عصر من غابر الأيام و بها يحسب الناس الأعمار و الأوقات الموقتة للديون و الإجارات و المعاملات و غير ذلك من أمورهم و بمسير الشمس تكمل السنة و يقوم حساب الزمان على الصحة انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها و منفعتها إلى كثير من الجهات لأن الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور و تغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها و الأرب التي قدرت له و لو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء أ فلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة فصارت تجري على مجاريها لا تفتل و لا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم و ما فيه بقاؤه
الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
84. استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور و لا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة و نشو الثمار و تصرمها و لذلك صارت شهور القمر و سنوه تتخلف عن شهور الشمس و سنيها و صار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء و مرة بالصيف) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
85. فكر في إنارته في ظلمة الليل و الأرب في ذلك فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان و برد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شي ء من العمل لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار و لشدة الحر و إفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى كحرث الأرض و ضرب اللبن و قطع الخشب و ما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك و أنسا للسائرين و جعل طلوعه في بعض الليل دون بعض و نقص مع ذلك عن نور الشمس و ضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار و يمتنعوا من الهدوء و القرار فيهلكهم ذلك و في تصرف القمر خاصة في مهله و محاقه و زيادته و نقصانه و كسوفه من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
86. فكر يا مفضل في النجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلا مجتمعة و بعضها مطلقة تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب و الآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين و النملة تدور ذات الشمال و النملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها و الأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة أو تكون كلها منتقلة فإن الإهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس بإهمال كما يزعم المعطلة فإن قال قائل و لم صار بعض النجوم راتبا و بعضها منتقلا قلنا إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة و مسيرها في كل برج من البروج كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس و النجوم في منازلها و لو كانتكلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها أو لو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ القائل يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا ففي اختلاف سيرها و تصرفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها
فوائد بعض النجوم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
87. فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة و تحتجب في بعضها كمثل الثريا و الجوزاء و الشعريين و سهيل فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس و يهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور و الجوزاء إذا طلعت و احتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كل واحد و احتجابه في وقت غير الوقت الآخر لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته و ما جعلت الثريا و أشباهها تظهر حينا و تحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة و كذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر و البحر للطرق المجهولة و كذلك إنها لا تغيب و لا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا و صار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الأرب و المصلحة و فيهما مآرب أخرى علامات و دلالات على أوقات كثيرة من الأعمال كالزراعة و الغراس و السفر في البر و البحر و أشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار و الرياح و الحر و البرد و بها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة و اللجج الهائلة مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة و مدبرة و مشرقة و مغربة من العبر فإنها تسير أسرع السير و أحثه أ رأيت لو كانت الشمس و القمر و النجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه أ لم تكن تستخطف الأبصار بوهجها و شعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت و اضطرمت في الجو و كذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضر في الأبصار و تنكأ فيها و بأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها و جعل فيها جزء يسيرا من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر و يمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف الليل فإن لم يكن شي ء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه فتأمل اللطف و الحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة و مدة لحاجة إليها و جعل خلالها شي ء من الضوء للمآرب التي وصفنا
الشمس و القمر و النجوم و البروج تدل على الخالق. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
88. فكر في هذا الفلك بشمسه و قمره و نجومه و بروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدير و الوزن لما في اختلاف الليل و النهار و هذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض و ما عليها من أصناف الحيوان و النبات من ضروب المصلحة كالذي بينت و شخصت لك آنفا و هل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر و صواب و حكمة من مقدر حكيم) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
89. فإن قال قائل إن هذا شي ء اتفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب يراه يدور و يسقي حديقة فيها شجر و نبات فيرى كل شي ء من آلاته مقدرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة و ما فيها و بم كان يثبت هذا القول لو قاله و ما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه أ فينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع و مقدر و يقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض و ما عليها أنه شي ء اتفق أن يكون بلا صنعة و لا تقدير لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات و غيرها أي شي ء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

90. فكر يا مفضل في مقادير النهار و الليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك أ فرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة أ لم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان و نبات أما الحيوان فكان لا يهدأ و لا يقر طول هذه المدة و لا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار و لا الإنسان كان يفتر عن العمل و الحركة و كان ذلك ينهكها أجمع و يؤديها إلى التلف و أما النبات فكان يطول عليه حر النهار و وهج الشمس حتى يجف و يحترق كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة و التصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا و تخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن و يفسد كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس
الحر و البرد و فوائدهما. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
91. اعتبر بهذا الحر و البرد كيف يتعاوران العالم و يتصرفان هذا التصرف في الزيادة و النقصان و الاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة و ما فيهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها و فيهما صلاحها فإنه لو لا الحر و البرد و تداولهما الأبدان لفسدت و أخوت و انتكثت فكر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج و الترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شي ء و الآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة و النقصان و لو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان و أسقمها كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك و أسقم بدنه فلم يجعل الله عز و جل هذا الترسل في الحر و البرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة و لم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك فإن زعم زاعم أن هذا الترسل في دخول الحر و البرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها و انحطاطها سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها و انحطاطها فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين سئل عن العلة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقي معه إلى حيث رقى من هذا القول حتى استقر على العمد و التدبير لو لا الحر لما كانت الثمار 0الجاسية المرة تنضج فتلين و تعذب حتى يتفكه بها رطبة و يابسة و لو لا البرد لما كان الزرع يفرخ هكذا و يريع الريع الكثير الذي يتسع للقوت و ما يرد في الأرض للبذر أ فلا ترى ما في الحر و البرد من عظيم الغناء و المنفعة و كلاهما مع غنائه و المنفعة فيه يؤلم الأبدان و يمضها و في ذلك عبرة لمن فكر و دلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم و ما فيه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
92. و أنبهك يا مفضل على الريح و ما فيها أ لست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس و يمرض الأصحاء و ينهك المرضى و يفسد الثمار و يعفن البقول و يعقب الوباء في الأبدان و الآفة في الغلات ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلقالهواء و الأصوات
و أنبئك عن الهواء بخلة أخرى فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء و الهواء يؤديه إلى المسامع و الناس يتكلمون في حوائجهم و معاملاتهم طول نهارهم و بعض ليلهم فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم و يفدحهم و كانوا يحتاجون في تجديده و الاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيا و يحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع و حسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة و ما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان و الممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه و فيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد و هو الحامل لهذه الأرواح ينقلها من موضع إلى موضع أ لا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت و هو القابل لهذا الحر و البرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه و منه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام و تزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر و تفضه حتى يستخف فيتفشى و تلقح الشجر و تسير السفن و ترخى الأطعمة و تبرد الماء و تشب النار و تجفف الأشياء الندية و بالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض فلو لا الريح لذوي النبات و لمات الحيوان و حمت الأشياء و فسدت
هيئة الأرض. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
93. فكر يا مفضل فيما خلق الله عز و جل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض و امتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس و مزارعهم و مراعيهم و منابت أخشابهم و أحطابهم و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيم غناؤها و لعل من ينكر هذه الفلوات الخاوية و القفار الموحشة فيقول ما المنفعة فيها فهي مأوى هذه الوحوش و محالها و مراعيها ثم فيها بعد تنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم فكم بيداء و كم فدفد حالت قصورا و جنانا بانتقال الناس إليها و حلولهم فيها و لو لا سعة الأرض و فسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للأشياء فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم و الجلوس عليها لراحتهم و النوم لهدوئهم و الإتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة منكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء و النجارة و الصناعة و ما أشبه ذلك بل كانوا لا يتهنون بالعيش و الأرض ترتج من تحتهم و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلة مكثها حتى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها فإن قال قائل فلم صارت هذه الأرض تزلزل قيل له إن الزلزلة و ما أشبهها موعظة و ترهيب يرهب بها الناس ليرعوا و ينزعوا عن المعاصي و كذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم و أموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم و استقامتهم و يدخر لهم إن صلحوا من الثواب و العوض في الآخرة ما لا يعدله شي ء من أمور الدنيا و ربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامة و الخاصة ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة و كذلك الحجارة و إنما الفرق بينها و بين الحجارة فضل يبس في الحجارة أ فرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا أ كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان و كان يمكن بها حرث أو بناء أ فلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة و جعلت على ما هي عليه من اللين و الرخاوة لتتهيأ للاعتماد. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
94. و من تدبير الحكيم جل و علا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عز و جل كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها و ترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح و يخفض الآخر لينحدر الماء عنه و لا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها و لو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها و يقطع الطرق و المسالك ثم الماء لو لا كثرته و تدفقه في العيون و الأودية و الأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم و شرب أنعامهم و مواشيهم و سقي زروعهم و أشجارهم و أصناف غلاتهم و شرب ما يرده من الوحوش و الطير و السباع و تتقلب فيه الحيتان و دواب الماء و فيه منافع أخر أنت بها عارف و عن عظيم موقعها غافل فإنه سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان و النبات يمزج الأشربة فتلذ و تطيب لشاربها و به تنظف الأبدان و الأمتعة من الدرن الذي يغشاها و به يبل التراب فيصلح للأعمال و به يكف عادية النار إذا اضطرمت و أشرف الناس على المكروه و به يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار و قلت ما الأرب فيه فعلم أنه مكتنف و مضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك و دواب البحر و معدن اللؤلؤ و الياقوت و العنبر و أصناف شتى تستخرج من البحر و في سواحله منابت العود اليلنجوج و ضروب من الطيب و العقاقير ثم هو بعد مركب للناس و محمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق و من العراق إلى الصين فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت و بقيت في بلدانها و أيدي أهلها لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها و كان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها و الآخر انقطاع معاش من يحملها و يتعيش بفضلها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
95. و هكذا الهواء لو لا كثرته و سعته لاختنق هذا الأنام من و البخار الذي يتحير فيه و يعجز عما يحول إلى السحاب و أولا أولا فقد تقدم من صفته ما فيه كفاية
منافع النار و جعلها كالمخزونة في الأجسام و النار أيضا كذلك فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم و الماء كانت تحرق العالم و ما فيه و لما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح جعلت كالمخزونة في الأجسام فتلتمس عند الحاجة إليها و تمسك بالمادة و الحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة و الحطب فتعظم المئونة في ذلك و لا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه بل هي على تهيئة و تقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها و السلامة من ضررها ثم فيها خلة أخرى و هي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه فأما البهائم فلا تستعمل النار و لا تستمع بها و لما قدر الله عز و جل أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفا و أصابع مهيئة لقدح النار و استعمالها و لم يعط البهائم مثل ذلك لكنها أعينت بالصبر على الجفاء و الخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها و أنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها و هي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا في ليلهم و لو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور فمن كان يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل و كيف كان حال من عرض له وجع في وقت من أوقات الليل فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو شيئا يستشفي به فأما منافعها في نضج الأطعمة و دفاء الأبدان و تجفيف أشياء و تحليل أشياء و أشباه ذلك فأكثر من أن تحصى و أظهر من أن تخفى
الصحو و المطر و تعاقبهما على العالم و فوائد ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
96. فكر يا مفضل في الصحو و المطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه و لو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده أ لا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول و الخضر و استرخت أبدان الحيوان و حصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض و فسدت الطرق و المسالك و أن الصحو إذا دام جفت الأرض و احترق النبات و غيض ماء العيون و الأودية فأضر ذلك بالناس و غلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء و دفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء و استقامت فإن قال قائل و لم لا يكون في شي ء من ذلك مضرة البتة قيل له ليمض ذلك الإنسان و يؤلمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه و يصلح ما فسد منه كذلك إذا طغى و اشتد احتاج إلى ما يمضه و يؤلمه ليرعوي و يقصر عن مساويه و يثبته على ما فيه حظه و رشده و لو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا من ذهب و فضة أ لم يكن سيعظم عندهم و يذهب له به الصوت فأين هذا من مطره رواء يعم به البلاد و يزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب و الفضة في أقاليم الأرض كلها أ فلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها و أعظم النعمة على الناس فيها و هم عنها ساهون و ربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمر و يسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمودا لعاقبته و قلة معرفته لعظيم الغناء و المنفعة فيها
مصالح نزول المطر على الأرض و أثر التدبير فيه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
97. تأمل نزوله على الأرض و التدبير في ذلك فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ و ارتفع منها فيرويه و لو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها و يقل ما يزرع في الأرض أ لا ترى أن الذي يزرع سيحا أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض و ربما تزرع هذه البراري الواسعة و سفوح الجبال و ذراها فتغل الغلة الكثيرة و بها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع و ما يجري في ذلك بينهم من التشاجر و التظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز و القوة و يحرمه الضعفاء ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها و لو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع و يحيي الأرض و الزرع القائم و في نزوله أيضا مصالح أخرى فإنه يلين الأبدان و يجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك و يغسل ما يسقط على الشجر و الزرع من الداء المسمى باليرقان إلى أشباه هذا من المنافع فإن قال قائل أ و ليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه أو برد يكون فيه تحطم الغلات و بخوره يحدثها في الهواء فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان و الآفات في الغلات قيل بلى قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الإنسان و كفه عن ركوب المعاصي و التمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.


98. انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين و الحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها و المنافع فيها كثيرة فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها لمن يحتاج إليه و يذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام و ينبت فيها ضروب من النبات و العقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل و يكون فيها كهوف و معاقل للوحوش من السباع العادية و يتخذ منها الحصون و القلاع المنيعة للتحرز من الأعداء و ينحت منها الحجارة للبناء و الأرحاء و يوجد فيها معادن لضرب من الجواهر و فيها خلال أخر لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه) مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
99. فكر يا مفضل في هذه المعادن و ما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و الجبسين و الزرنيخ و المرتك و التوتياء و الزئبق و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الياقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما يخرج منها من القار و الموميا و الكبريت و النفط و غير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم و اجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر و يستفيض في العالم حتى تكثر الفضة و الذهب و يسقطا عند الناس فلا تكون لهما قيمة و يبطل الانتفاع بهما في الشراء و البيع و المعاملات و لا كان يجبي السلطان الأموال و لا يدخرهما أحد للأعقاب و قد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس و الزجاج من الرمل و الفضة من الرصاص و الذهب من الفضة و أشباه ذلك مما لا مضرة فيه فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه و منعوا ذلك فيما كان ضارا لهم لو نالوه و من أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره و لا حيلة في عبوره و من ورائه أمثال الجبال من الفضة تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته و سعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس و قلة انتفاعهم به و اعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشي ء الظريف مما يحدثه الناس من الأواني و الأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا و كثر في أيدي الناس سقط عندهم و خست قيمته و نفاسة الأشياء من عزتها
النبات و ما فيه من ضروب المآرب. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
100. فكر يا مفضل في هذا النبات و ما فيه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء و الأتبان للعلف و الحطب للوقود و الخشب لكل شي ء من أنواع النجارة و غيرها و اللحاء و الورق و الأصول و العروق و الصموغ لضروب من المنافع أ رأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض و لم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا و إن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب و الحطب و الأتبان و سائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره و نضارته التي لا يعدلها شي ء من مناظر العالم و ملاهيه
الريع في النبات و سببه
فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة و أكثر و أقل و كان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة متسع لما يرد في الأرض من البذر و ما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل أ لا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم و ما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت و الزراعة و كذلك الشجر و النبت و النخل يريع الريع الكثير فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس و يستعملونه في مآربهم و ما يرد فيغرس في الأرض و لو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ و لا يريع لما أمكن أن يقطع منه شي ء لعمل و لا لغرس ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف
بعض النباتات و كيف تصان. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
101. تأمل نبات هذه الحبوب من العدس و الماش و الباقلاء و ما أشبه ذلك فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها و تحجبها من الآفات إلى أن تشتد و تستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه و أما البر و ما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رءوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل أ و ليس قد ينال الطير من البر و الحبوب قيل له بلى على هذا قدر الأمر فيها لأن الطير خلق من خلق الله تعالى و قد جعل الله تبارك و تعالى له في ما تخرج الأرض حظا و لكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها و يفسد الفساد الفاحش فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شي ء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت و يخرج الزارع من زرعه صفرا فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به و يبقى أكثره للإنسان فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه و شقي به و كان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.

102. تأمل الحكمة في خلق الشجر و أصناف النبات فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان و لا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان و ما عليها من الورق و الثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها و صارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغداء كما ترضع أصناف الحيوان أمهاتها أ لم تر إلى عمد الفساطيط و الخيم كيف تمد بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه و تقيمه و لو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال و الدوح العظام في الريح العاصف فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط و الخيم متقدمة في خلق الشجر لئن خلق الشجر قبل صنعه الفساطيط و الخيم أ لا ترى عمدها و عيدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة
خلق الورق و وصفه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
103. تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها و عرضها و منها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجره واحدة في عام كامل و لاحتيج إلى آلات و حركة و علاج و كلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال و السهل و بقاع الأرض كلها بلا حركة و لا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شي ء و الأمر المطاع و اعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها و توصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منه الغلاظ منها معنى آخر فإنها تمسك الورقة بصلابتها و متانتها لئلا تنهتك و تتمزق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها و عرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة و إن كانت لا تدركها على الحقيقة العجم و النوى و العلة في خلقه
فكر في هذا العجم و النوى و العلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق كما يحرز الشي ء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أخر فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار و رقتها و لو لا ذلك لتشدخت و تفسخت و أسرع إليها الفساد و بعضه يؤكل و يستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح و قد تبين لك موضع الأرب في العجم و النوى فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة و فوق العجم من العنبة فما العلة فيه و لما ذا يخرج في هذه الهيئة و قد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدرو الدلب و ما أشبه ذلك فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان موت الشجر و تجدد حياته و ما في ذلك من ضروب التدبير. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
104. فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موته فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده و يتولد فيه مواد الثمار ثم يحيى و ينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد و ترى الرياحين تتلقاك في أفنانها كأنها تجئك بأنفسها فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم و ما العلة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار و الأنوار و العجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها
خلق الرمانة و أثر العمد فيه
و اعتبر بخلق الرمانة و ما ترى فيها من أثر العمد و التدبير فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها و حب مرصوف صفا كنحو ما ينضد بالأيدي و ترى الحب مقسوما أقساما و كل قسم منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج و ألطفه و قشره يضم ذلك كله فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده و ذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء أ لا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ثم لف بتلك اللفائف لتضمه و تمسكه فلا يضطرب و غشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه و تحصنه من الآفات فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة و فيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب و التذرع في الكلام و لكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة و الاعتبار
حمل اليقطين و ما فيه من التدبير و الحكمة. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
105. فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء و القثاء و البطيخ و ما في ذلك من التدبير و الحكمة فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض و لو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع و الشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة و لتقصف قبل إدراكها و انتهائها إلى غاياتها فانظر كيف صار يمتد على وجه الأرض ليلقي عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع و البطيخ مفترشا للأرض و ثماره مبثوثة عليها و حواليه كأنه هرة ممتدة و قد اكتنفتها جراؤها لترضع منها
موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها
و انظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة الصيف و وقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح و تشوق إليها و لو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها و اقشعرارا منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان أ لا ترى أنه ربما أدرك شي ء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره و يسقم معدته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
106. فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل و هو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى و أخرى معه معترضة كاللحمة كنحو ما ينسج بالأيدي و ذلك ليشتد و يصلب و لا يتقصف من حمل القنوات الثقيلة و هز الرياح العواصف إذا صار نخلة و ليتهيأ للسقوف و الجسور و غير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا و كذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا و عرضا كتداخل أجزاء اللحم و فيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف و غير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب و الأسرة و التوابيت و ما أشبه ذلك و من جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه و ليس كلهم يعرف جلاله الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن و الأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة و أنى كان ينال الناس هذا الرفق و خفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد و كانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده
العقاقير و اختصاص كل منها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
107. فكر في هذه العقاقير و ما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج و هذا ينزف المرة السوداء مثل الأفتيمون و هذا ينفي الرياح مثل السكبينج و هذا يحلل الأورام و أشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة و من فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها و متى كان يوقف على هذا منها بالعرض و الاتفاق كما قال القائلون و هب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه و لطيف رويته و تجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ و بعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم و أشباه هذا كثير و لعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري و البراري حيث لا أنس و لا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه و ليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش و حبه علف للطير و عوده و أفنانه حطب فيستعمله الناس و فيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان و أخرى تدبغ بها الجلود و أخرى تصبغ الأمتعة و أشباه هذا من المصالح أ لست تعلم أن من أخس النبات و أحقره هذا البردي و ما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك و السوقة و الحصر التي يستعملها كل صنف من الناس و يعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني و يجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب و تنكسر و أشباه هذا من المنافع فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره و بما له قيمة و ما لا قيمة له و أخس من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي ء حتى أن كل شي ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه و اعلم أنه ليس منزلة الشي ء على حسب قيمته بل هما قيمتان. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
108. مختلفتان بسوقين و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشي ء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها قال المفضل و حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة و قال بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت و قد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسرورا















فصل مجلس الرابع
109. قال المفضل فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فأمرني بالجلوس فجلست فقال ع منا التحميد و التسبيح و التعظيم و التقديس للاسم الأقدم و النور الأعظم العلي العلام ذي الجلال و الإكرام و منشئ الأنام و مفني العوالم و الدهور و صاحب السر المستور و الغيب المحظور و الاسم المخزون و العلم المكنون و صلواته و بركاته على مبلغ وحيه و مؤدي رسالته الذي بعثه بشيرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة فعليه و على آله من بارئه الصلوات الطيبات و التحيات الزاكيات الناميات و عليه و عليهم السلام و الرحمة و البركات في الماضين و الغابرين أبد الآبدين و دهر الداهرين و هم أهله و مستحقوه
الموت و الفناء و انتقاد الجهال و جواب ذلك
قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد في الإنسان و الحيوان و النبات و الشجر و غير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر و أنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق و الخالق و العمد و التدبير و ما أنكرت المعطلة و المنانية من المكاره و المصائب و ماأنكروه من الموت و الفناء و ما قاله أصحاب الطبائع و من زعم أن كون الأشياء بالعرض و الاتفاق ليتسع ذلك القول في الرد عليهم قاتلهم الله أنى يؤفكون
الآفات و نظر الجهال إليها و الجواب على ذلك. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.





مضمون صحيح (11)

110. اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد ذريعة إلى جحود الخالق و التدبير و الخلق -الى ان قال- يلذع العالم أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة و كشفها عنهم رحمة)  مضمون صحيح له شاهد.
111. و قد أنكرت المنانية من المكاره و المصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة و القائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر و لو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر و العتو إلى ما لا يصلح في دين و لا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر و أنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره و وجد مضضها اتعظ و أبصر كثيرا مما كان جهله و غفل عنه و رجع إلى كثير مما كان يجب عليه و المنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة و يتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة و يتكرهون الأدب و العمل و يحبون أن يتفرغوا للهو و البطالة و ينالوا كل مطعم و مشرب و لا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو و العادة و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء و الأسقام و ما لهم في الأدب من الصلاح و في الأدوية من المنفعة و إن شاب ذلك بعض الكراهة فإن قالوا فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوئ حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها و لا مستحقا للثواب عليها فإن قالوا و ما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب بعد أن يصير إلى غاية النعيم و اللذات قيل لهم اعرضوا على امرئ صحيح الجسم و العقل أن يجلس منعما و يكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي و لا استحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي و الحركة أشد اغتباطا و سرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق و كذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه و الاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا و جعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي و استحقاق فيكمل له السرور و الاغتباط بما يناله منه فإن قالوا أ و ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير و إن كان لا يستحقه فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة قيل لهم إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب و الضراوة على الفواحش و انتهاك المحارم فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه و أهله و ماله من الناس لو لم يخاف الحساب و العقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل و الحكمة معا و موضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب و وضع الأمور في غير مواضعها. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.







مضمون صحيح (12)

112. و قد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر و الفاجر أو يبتلى بها البر و يسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم و ما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات و إن كانت تنال الصالح و الطالح جميعا فإن الله عز و جل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر و الصبر و أما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم و ردعهم عن المعاصي و الفواحش و كذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر و الصلاح و يزدادون فيه رغبة و بصيرة و أما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم و تطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس و الصفح عمن أساء إليهم) مضمون صحيح له شاهد.
113. ( و لعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق و الغرق و السيل و الخسف فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من تكاليفها و النجاة من مكارهها و أما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم و حبسهم عن الازدياد منها و جملة القول إن الخالق تعالى ذكره بحكمته و قدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير و المنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجره أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق و استعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم و أموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير و المنفعة فإن قال و لم تحدث على الناس قيل له لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي و يفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة و هذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم و تنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان و المعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان و تطهير الأرض منهم
الموت و الفناء و انتقاد الجهال و جواب ذلك
و مما ينتقده الجاحدون للعمد و التقدير الموت و الفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله أ فرأيت لو كان كل من دخل العالم و يدخله يبقون و لا يموت أحد منهم أ لم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن و المزارع و المعايش فإنهم و الموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن و المزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب و تسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون و كان يغلب عليهم الحرص و الشره و قساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشي ء يناله و لا أفرج لأحد عن شي ء يسأله و لا سلا عن شي ء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة و كل شي ء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت و الراحة من الدنيا فإن قالوا إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره و الأوصاب حتى لا يتمنوا الموت و لا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو و الأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا و الدين و إن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن و المعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم و الاستمتاع بنعم الله تعالى و مواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن واحد لا يتوالدون و لا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق و يخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن و المعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون و لا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات و ذوي الأرحام و الانتصار بهم عند الشدائد و موضع تربية الأولاد و السرور بهم ففي هذا دليل على أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ و سفه من الرأي و القول لطعن على التدبير من جهة أخرى و الجواب عليه
و لعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير و نحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزيز فالقوي يظلم و يغصب و الضعيف يظلم و يسالم الخسف و الصالح فقير مبتلى و الفاسق معافى موسع عليه و من ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق و الطالح هو المحروم و كان القوي يمنع من ظلم الضعيف و المنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق و حمل النفس على البر و العمل الصالح احتسابا للثواب و ثقة بما وعد الله عنه و لصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا و العلف و يلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك و لم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب و لا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا و كان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق و السعة في هذه الدنيا و يكون الممتنع من الظلم و الفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شي ء من اليقين بما عند الله و لا يستحقون ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى و الفقر و العافية و البلاء ليست بجارية على خلاف قياسه بل قد تجري على ذلك أحيانا و الأمر المفهوم فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير و كيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون و الأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح و ترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم و عظم ضررهم على الناس و على أنفسهم كما عوجل فرعون بالغرق و بخت نصر بالتيه و بلبيس بالقتل و إن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة و أخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض و لا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه و تعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي و التدبير و إذا كانت الشواهد تشهد و قياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز و إما جهل و إما شرارة و كل هذا محال في صنعته عز و جل و تعالى ذكره و ذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة و الجاهل لا يهتدى لما فيها من الصواب و الحكمة و الشرير لا يتطاول لخلقها و إنشائها و إذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة و إن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير و مخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة و لا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك و أسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب و الشاهد المحنة و لو شككت في بعض الأدوية و الأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد أ لم تكن ستقضي عليه بذلك و تنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق و التدبير مع هذه الشواهد الكثيرة و أكثر منها ما لا يحصى كثرة و لو كان نصف العالم و ما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي و سمت الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر و ما يظهر فيه من الصواب و إتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف و كلما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شي ء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح و أصوب منه. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
114. و اعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس و تفسيره الزينة و كذلك سمته الفلاسفة و من ادعى الحكمة أ فكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير و النظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا و نظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب و الإتقان على غاية الحسن و البهاء
عمي ماني عن دلائل الحكمة و ادعاؤه علم الأسرار
أعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ و هم يرون الطبيب يخطئ و يقضون على العالم بالإهمال و لا يرون شيئا منه مهملا بل أعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل و علا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار و عمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ و نسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل
و أعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود و التكذيب فقالوا و لم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه . مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.






مضمون صحيح (13)
115. أ فلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه و لكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا و لم يعاينها و لم يدركها بحاسة من الحواس و على حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار و لا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته ) مضمون صحيح له شاهد.
116. فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف و لا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه و هو أن يوقنوا به و يقفوا عند أمره و نهيه و لم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أ طويل هو أم قصير و أبيض هو أم أسمر و إنما يكلفهم الإذعان لسلطانه و الانتهاء إلى أمره أ لا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال أعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك و إلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه .  ص مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (14)
117. (إن قالوا أو ليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار و ليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم و لا نعلم بكنه ذلك منه و كذلك قدير و جواد و سائر صفاته ) مضمون صحيح له شاهد.
118. كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها و نرى البحر و لا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له و لأن الأمثال كلها تقصر عنه و لكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا و لم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته و تعديها أقدارها في طلب معرفته و أنها تروم الإحاطة به و هي تعجز عن ذلك و ما دونه. فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم و لا يوقف على حقيقة أمرها و لذلك كثرت الأقاويل فيها و اختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء نارا له فم يجيش بهذا الوهج و الشعاع و قال آخرون هو سحابة و قال آخرون هو جسم زجاجي يقل نارية في العالم و يرسل عليه شعاعها و قال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر و قال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار و قال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة و قال آخرون هي كالكرة المدحرجة و كذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء و قال آخرون بل هي أقل من ذلك و قال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة و قال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة و سبعين مرة ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر و يدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس و استتر عن الوهم. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
مضمون صحيح (15)
119. ( فإن قالوا و لم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب و الستور و إنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس و هي خلق من خلقه و ارتفعت عن إدراكها بالنظر) مضمون صحيح له شاهد.



120. فإن قالوا و لم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو خالق كل شي ء إلا أن يكون مباينا لكل شي ء متعاليا عن كل شي ء سبحانه و تعالى. فإن قالوا كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شي ء متعاليا عن كل شي ء قيل لهم الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أ موجود هو أم ليس بموجود و الثاني أن يعرف ما هو في ذاته و جوهرة و الثالث أن يعرف كيف هو و ما صفته و الرابع أن يعلم لما ذا هو و لأي علة فليس من هذه الوجوه شي ء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط)  فإذا قلنا و كيف و ما هو فممتنع علم كنهه و كمال المعرفة به و أما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شي ء و ليس شي ء بعلة له ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو و كيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي و كيف هي و كذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه و الإحاطة به و هو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد و هو من جهة كالغامض لا يدركه أحد و كذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده و مستور بذاته. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.
121. أما أصحاب الطبائع فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى و لا تتجاوز عما فيه تمام الشي ء في طبيعته و زعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطي الطبيعة هذه الحكمة و الوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها و هذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة و القدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق و إن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم و قد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد و التدبير في الأشياء و زعموا أن كونها بالعرض و الاتفاق و كان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف و العادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد و تقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون و قد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض و الاتفاق إنما هو شي ء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها و ليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا و أنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال و منهاج واحد كالإنسان يولد و له يدان و رجلان و خمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشي ء فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها و يسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب عليها جميعا الإهمال و عدم الصانع كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض و الاتفاق فقول من قال في الأشياء إن كونها بالعرض و الاتفاق من قبيل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ و خطل فإن قالوا و لم صار مثل هذا يحدث في الأشياء قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة و لا يمكن أن يكون سواه كما قال القائلون بل هو تقدير و عمد من خالق حكيم إذ جعل للطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى و منهاج معروف و تزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق و قدرته في بلوغ غايتها و إتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين يا مفضل خذ ما آتيتك و احفظ ما منحتك و كن لربك من الشاكرين و لآلائه من الحامدين و لأوليائه من المطيعين فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد قليلا من كثير و جزء من كل فتدبره و فكر فيه و اعتبر به فقلت بمعونتك يا مولاي أقر على ذلك و أبلغه إن شاء الله فوضع يده على صدري فقال احفظ بمشيئة الله و لا تنس إن شاء الله فخررت مغشيا علي فلما أفقت قال كيف ترى نفسك يا مفضل فقلت قد استغنيت بمعونة مولاي و تأييده عن الكتاب الذي كتبته و صار ذلك بين يدي كأنما أقرأه من كفي فلمولاي الحمد و الشكر كما هو أهله و مستحقه فقال يا مفضل فرغ قلبك و اجمع إليك ذهنك و عقلك و طمأنينتك فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله بينهما و فيهما من عجائب خلقه و أصناف الملائكة و صفوفهم و مقاماتهم و مراتبهم إلى سدرة المنتهى و سائر الخلق من الجن و الإنس إلى الأرض السابعة السفلى و ما تحت الثرى حتى يكون ما وعيته جزء من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوء فأنت منا بالمكان الرفيع و موضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى و لا تسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا قال المفضل فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله. مضمون معتل؛ ظن لا شاهد له.






خاتمة في مختصر توحيد المفضل بالمضامين الصحيحة
المفضل عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال له: 

إن الله تعالى كان ولا شي ء قبله وهو باق و لا نهاية له فله الحمد على ما ألهمنا و الشكر على ما منحنا فقد خصنا من العلوم بأعلاها و من المعالي بأسناها و اصطفانا على جميع الخلق بعلمه و جعلنا مهيمنين عليهم بحكمه.

إن الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة و قصرت أفهامهم عن تأمل الصواب و الحكمة فيما ذرأ الباري جل قدسه و برأ من صنوف خلقه في البر و البحر و السهل و الوعر فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود و بضعف بصائرهم إلى التكذيب و العنود حتى أنكروا خلق الأشياء و ادعوا أن تكونها بالإهمال لا صنعة فيها و لا تقدير و لا حكمة من مدبر و لا صانع)

يحق على من أنعم الله عليه بمعرفته و هداه لدينه و وفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق و الوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير و صواب التقدير بالدلالة القائمة الدالة على صانعها أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك و يرغب إليه فيالثبات عليه و الزيادة منه فإنه جل اسمه يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) مضمون صحيح له شاهد..
أول العبر و الدلالة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هي عليه.

سلهم عن هذه الطبيعة أ هي شي ء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم و القدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صنعته و إن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم و لا عمد و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما أجراها عليه
الكلام إنما هو شي ء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم و لهذا صار يختلف في الأمم المختلفة و كذلك لكتابة العربي و السرياني و العبراني و الرومي و غيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان و إن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشي ء الذي يبلغ به ذلك الفعل و الحيلة عطية و هبة من الله عز و جل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام و ذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا و لو لم تكن له كف مهيئة و أصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا و اعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها و لا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل و عز و ما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب و من كفر فإن الله غني عن العالمين
فأعطي علم ما يصلح به دينه و دنياه و منع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه و لا طاقته أن يعلم كعلم الغيب و ما هو كائن و بعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء و ما تحت الأرض و ما في لجج البحار و أقطار العالم و ما في قلوب الناس و ما في الأرحام و أشباه هذا مما حجب عن الناس علمه وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه و يحكمون به فيما ادعوا عليه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه و دنياه و حجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره و نقصه و كلا الأمرين فيها صلاحه. 
فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء و لو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها و تكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد
جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه و محاماة عنه و حافظ له ينتقل على الحيطان و السطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه و ذب الذعار عنه و يبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه و دون ماشيته و ماله و يألفه غاية الألف حتى يصبر معه على الجوع و الجفوة فلم طبع الكلب على هذه الألفة و المحبة إلا ليكون حارسا للإنسان

فلا تزدرى بالشي ء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة و النملة و ما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشي ء الحقير فلا يضع منه

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد ذريعة إلى جحود الخالق و التدبير و الخلق -الى ان قال- يلذع العالم أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة و كشفها عنهم رحمة
قد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر و الفاجر أو يبتلى بها البر و يسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم و ما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات و إن كانت تنال الصالح و الطالح جميعا فإن الله عز و جل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر و الصبر و أما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم و ردعهم عن المعاصي و الفواحش و كذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر و الصلاح و يزدادون فيه رغبة و بصيرة و أما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم و تطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس و الصفح عمن أساء إليهم

أ فلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه و لكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا و لم يعاينها و لم يدركها بحاسة من الحواس
و على حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار و لا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته 
إن قالوا أو ليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار و ليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم و لا نعلم بكنه ذلك منه و كذلك قدير و جواد و سائر صفاته